من الأقوال التي تشخّص واقع المحيط البيروقراطي عبارة تقول: لا تقف هكذا "لا شغل ولا مشغلة" حتى لا يظن من يراك أنك الريّس". والأدبيات البيروقراطية حافلة بهذه التهكمات التي لم تنبع من فراغ. فالرئيس وفقا لهذا القول مثل أم العروس "فاضية ومشغولة". بل إن بعض تلك الانتقادات يعتبر رأس الهرم البيروقراطي، أحيانا، مصدر إعاقة. يقول الموظف للمراجع "راجعنا بكرة" ويأتي بكرة وبعد بكرة، ويسأل المراجع الموظف عن مصير معاملته فيقال له: "ما زالت في مكتب الرئيس". وقد يماطل الرؤساء، لكن الرؤساء هم الرؤساء.
لذلك يقال إن الرئيس المبدع ليس ذلك الذي ينجز العمل بشكل أفضل من مرؤوسيه، بل الشخص الذي يستطيع أن يدفع مرؤوسيه إلى إنجاز العمل بشكل أفضل منه. بل إن سرعة الإنجاز لدى فريق العمل تتناسب بشكل طردي مع سرعة إنجاز رئيس الفريق.
تبقى بعض المعاملات على مكتب (السيد بيروقراط) أسبوعا أو يزيد، ليذيلها بعد ذلك بعبارة "لا مانع". وأتصور أنك لو طلبت منه إيضاحا عن أسباب ذلك التأخير، لقال لك: "وهي لا مانع دي شوية؟". عبارة تستدعي مشهدا من مسرحية (مدرسة المشاغبين). في هذا المشهد تطلب الأستاذة عفّت (سهير البابلي) من مرسي الزناتي (سعيد صالح) أن يكتب على السبورة عبارة "من السهل على الإنسان أن يقلد صوت الحمار". وعندما تبدأ في إملاء الجملة يقول لها: "وحدة.. وحدة"، أي على مهلك. فتقول: أنا ما قلتش غير "مِنَ"! فيرد قائلا: "وهي مِنَ دي شوية؟"
نعم. "لا مانع" وأخواتها من التواقيع المكتبية ليست "شوية" عند بعض البيروقراطيين. و"لا مانع" تلك ليست مقطوعة من شجرة، بل لها أخوات شقيقات، ومحاكاةً لألفية ابن مالك، وتسهيلا على أصحاب السعادة، رصدتُ بعضا منها في الأبيات التالية: (إذا تعيَّنتَ رئيسَ مصلحهْ/ فاحفظ من القولِ المفيدِ أفصحهْ/ للعـلم ِ للتعميم للإِحاطهْ/ بساطة ٌ ما بعدهـا بساطـهْ/ أضفْ لها التحقيقَ والإِفادهْ/ من مفردات صاحبِ السعادهْ/ وجملـةً تسيل بالسلاسه/ تحال للمختص للدراسهْ/ أوكِلْمة ً هينـة ً في اللفظِ/ مريحـةً يدعونها (للحِفْظِِ)!
في عصر الرسائل الهاتفية، والبريد الإلكتروني، والتطلع إلى توسيع خدمات الحكومة الإلكترونية، مازالت "لا مانع" التي هي تحصيل حاصل في حالات كثيرة، تحتاج إلى كل ذلك الوقت. ذلك شكل من المركزية الذي لو تقلص لتحسن مستوى الأداء، وتسارع ترس سرعة التنمية التي قد تتعثر إذا لم يواكبها تطوير في مستوى الأداء الإداري. ولا يمكن تطوير مستوى الأداء ما لم يصبح للوقت قيمة. فالوقت ثروة ضائعة يتم تبديدها دون حساب.
مثل تلك التعقيدات، وما يترتب عليها من أداء بطيء، تفسر لنا رأي ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد (1976) الذي يرى أن الإنجازات الحضارية الكبيرة لم تتحقق تحت إشراف الموظفين العامين. فآينشتاين لم يأتِ بنظريته تنفيذاً لأوامر صادرة من بيروقراطي، كما أن هنري فورد لم يحقق تلك الثورة في صناعة السيارات بالطريقة إياها. بمعنى أنك إذا أردت أن تحقق إنجازا ما فتخلص من تعقيدات الآلة البيروقراطية. ولا تنتظر كلمة "لا مانع" أو إحدى أخواتها تأتي من أعلى الهرم البيروقراطي. فالإبداع إنجاز فردي. وإذا كنت تبحث عن السرعة والفاعلية والجودة فالبيروقراطية ليست الوسيلة المناسبة لتحقيق تلك الأهداف.