قامت دولة المدينة الأولى بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قيم الحق والإنسانية والعدل والشورى والإصلاح فاكتسبت قبولا في الواقع قبل القول باعتراف العدوّ قبل الصديق، ثم توسعت بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والخلق والقول الحسن والصبر، فارتفعت منارة العلم والعدل والفكر والعمل بالحق فيها لرفع الظلم عن الناس وتحرير العقول من الخرافة والظلم والأوهام ونشر العلم والخير والصلاح حتى اكتمل عقدها فاستنارت الدنيا بنورها، ثم تلت القيادة النبوية خلافة حق قامت بأغلبية توافقية بين أبناء الأمّة حرصت فيها على ذلك النهج الوسطي المعتدل، وفق نموذج حكم عز مثله بحسب مقاييس ذلك العصر الذي كانت فيه الإمبراطوريات قائمة على التوريث والاستئثار بالسلطة والاستبداد، حتى تواتر النقل بتسميتها الخلافة الراشدة، لقيامها على العدل والشورى ورعاية مصالح الأمّة في الحكم وإصلاح خللها ببصيرة وصدق تحت نظر جماعتها وعلمائها نقدا وحوارا واختيارا على الرغم من تفاوت الرضا الشعبي ووقوع بعض الفتن خلال تلك المرحلة، إلا أنها حملت صفة الرشد كون القيم التي حملها المجتمع كله كانت أشد قربا إلى الرشد من الاستبداد والاستئثار والتسلط آنذاك.
إن هذا الرشد لم يكن وصفا للطبقة الحاكمة فقط بقدر ما كان وصفا للكل، للحاكم وللمرحلة التاريخية وللمجتمع الذي أنتج ذلك الحكم الراشد؛ إنه صفة لشريحة اجتماعية واسعة ساهمت في نهوض المجتمع، وهذا هو المطلوب للنهوض بالمجتمع في كل زمان ومكان. إن أكثر الأفكار المطروحة اليوم والأفعال القائمة عن الخلافة وما انتهت إليه مع داعش في أيامنا هذه أمر لا سند له من الدين ولا العقل، وإن ادعى الداعون إليها الاستناد لروايات تحمل مفردات الخلافة، فإنما هو استناد لفظي خال عن قيم الحق والإنسانية والعدل والإصلاح التي دعا إليها الدين.
وما يستند إليه الزاعمون للخلافة من العمل بما روي فيها عن حذيفة عن النبي قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة...الحديث " استناد في غاية البعد عن حقيقة الخلافة على منهاج النبوة، فضلا عن أن هذا الحديث ليس فيه أي أمر أو توجيه للمسلمين لنمط محدد في الحكم، وغاية ما فيه أنه وصف لما سيقع من تناقص للحالة النبوية المثلى في الحكم.
لقد أشار القرآن إلى وقوع حكم أمم سابقة بالملك الصالح على وجه الامتنان، ولم يقتصر على الحكم بالأنبياء مما يعني صحة صور مختلفة للحكم. أما الحديث الوارد في الخلافة فليس فيه لزوم نمطية واحدة للحكم إنما كان إخبارا بما سيقع، وانتهاء الحديث بعبارة "خلافة على منهاج النبوة" فيه إشارة لمنهج النبوة القدوة، الذي امتلأ بقيم الإنسانية والعدل والحرية والرحمة، وتلك القيم هي ما يجب أن يتنافس في تحقيقها المسلمون.
إنه من غير الجائز عقلا وشرعا ألا يرد نص محكم من الوحي يأمر فيه بصورة محددة في الحكم تضمن سلامة مسيرة الأمة، وهذا يؤكد أنه لا رابط بين الروايات الوارد فيها ذكر الخلافة وبين القول بلزومها، فضلا عن تصحيح الأقوال والأعمال المفسدة الملصقة بالخلافة كما يزعمون، إن رسول الله لم يتدخل في تحديد شكل الحكم، أو اختيار خليفته، ولو كان ضبط ذلك أمرا لازما لبينه؛ والوقائع التاريخية تظهر أن تداول السلطة بعده لم يكن بطريقة متطابقة، فاختيار الصدّيق كان اختيارا مباشرا بعد نقاش بين المهاجرين والأنصار، بينما كان اختيار الفاروق بالعهد من قبل الخليفة الأول بعد أن استطلع آراء من حوله من الصحابة، أما عثمان بن عفان فعين بطريقة الشورى من سبعة من كبار الصحابة ذلك الوقت وأفضلهم تاريخا ومكانة، أما اختيار على بن أبي طالب فكان بطريقة الانتخاب من قبل من أهل المدينة.
إن هذا الاختلاف في الشكل والمعايير فيه دلالة واضحة على أن شكل الحكم وطريقة اختيار الحاكم لم تكن في الدين بصورة واحدة محددة، وإنما تشكلت بصور اجتهادية مختلفة كان يرجى بها تحقيق مصلحة الأمة، والمتأمل يبصر أن الرابط بين مراحل الحكم للخلفاء الأربعة هو الحرص على العدل والشورى ومصلحة الأمة.