الوصول إلى رضوان الله، دونه سفرٌ طويلٌ وطريقٌ شاقة، قطْعُ هذه الطريق يستغرق هذه الأيام والليالي التي نطويها، وإن شئت فقل تطوينا (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
يريد الله أن يمنح هؤلاء السائرين إليه، ما يطوي به عنهم بُعدَ السفر ويقرِّبهم من مرادهم وغايتهم.
وهذا يخفف عنهم شيئاً من هَمِّ السفر، فالمسافر لا هَمَّ له إلا الوصول.
منحهم مواسم للطاعة مختلفة، يقطعون فيها من المسافات ما لا يقطعونه في غيرها.
ومنها هذه العَشْرُ التي نزلت بساحتنا، عشر ذي الحجة. فهي أيام مباركة، خير أيام الدنيا، فيها يوم عرفة، ويوم النحر.
وهي المعنية بقوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) كما هو مروي عن ابن عباس -رضي الله عنه- وعليه جمهور العلماء.
أيامٌ لكثرة خيرها وفضلها وبركتها كأنما هي التي تسير بهم إلى الله بدلاً أن يسيروا هم فيها. القليل من العمل فيها كثير، وليس كالعمل في غيرها.
وقد جاء الحثُّ على العمل الصالح في هذه الأيام، كما جاء ذلك عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام العمل الصالح أحب فيهن إلى الله من هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج بأهله وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري.
بالعمل الصالح يستجلبُ العبدُ محبَّةَ ربه له، (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
وبالعمل الصالح يكفِّر العبدُ عن نفسه خطيئته وذنبه، (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
وبالعمل الصالح يَرِثُ الجنَّة ويكون من أهلها، (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
هذا كله وغيره في فضل العمل الصالح، فكيف إذا وقع في مثل هذه الأيام؟!
أن يجتمع شرف العمل وصالحه، وشرف الزمان، فأي طوي للمسافة بيننا وبين الله! وأي منحة منحناها! وأي نعمة منَّ الله بها علينا إذ بلغنا هذا!.
ومن شريف فضل هذه الأيام، اجتماع سائر العمل الصالح فيها، وهذا ما لا يحصل في غيرها.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيره).
وهناك أعمالٌ صالحةٌ ينبغي أن تُعطى أهمية خاصة، لاختصاصها بهذه الأيام دون غيرها، كالحج والعمرة وأداء المناسك، أو ذبح الأضاحي ونحرها، وصيام يوم عرفة. أو للترغيب فيها بشكل خاص كذكر الله تعالى، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) [رواه أحمد].
فينبغي مع كل هذا أن نحرص أن يكثر خيرُنا وبرُّنا في هذه الأيام.
أيها السائرون إلى ربكم والراجعون إليه، هي أيامٌ ستمضي كغيرها، فإن جعلناها سيراً إلى الله اقتربنا، وإن جعلناها سيراً عنه ابتعدنا.
أيها السائرون إلى ربكم والراجعون إليه، أبشروا فالطريق إلى الله مختلفةٌ عن سائر الطرق، فلا تحتاج حتى تصل فيها، أن تقطع المسافة كاملة، فالوصول سيكون قبل ذلك (مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ).
وفي مثل هذه الأيام سيكون القرب مضاعفاً، والوصول أسرع.