أمرتُهمُ أمري بمُنْعَرَجِ اللِّوى فلم يستبينوا الرُّشدَ إلَّا ضحى الغدِ فلما عَصَوني كنتُ منهمُ، وقد أرى غَوَايتَهمْ أو أنَّني غيرُ مُهْتَدي وما أنا إلَّا من غَزِيَّةَ إن غَوَتْ غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
(دريد بن الصمّة)
بالرغم من أهمية العمل الجماعي، فإنه أحيانا ينتج قرارات غير صائبة. ولعل من أهم هذه الحالات هي حالة عقلية القطيع (Groupthink). وهي ظاهرة سيكولوجية تحدث في المجموعات التي تؤدي فيها الرغبة في التناغم والانسجام إلى قرارات غير صائبة وكارثية. فالأعضاء يسعون لتقليل الاختلاف بينهم ليصلوا إلى قرار بالإجماع دون تقييم نقدي لوجهات النظر الأخرى، عن طريق عدم تشجيع الآراء المختلفة وكذلك عن طريق عزل المجموعة عن التأثيرات الخارجية. فالولاء للفريق، يجعل العضو يحجم عن إثارة قضايا خلافية أو حلول بديلة. ويحدث ذلك في ظل غياب قواعد وآليات واضحة تحكم صنع القرار الجماعي ووجود قائد أو عضو مهيمن وغير حيادي يسعى دائماً للسيطرة على مشاركة الأعضاء بمنع ظهور الآراء المخالفة،
يعمل كثير منا مع زملاء في فريق عمل لعدد من السنين، فتزداد لحمة الفريق وتتقارب وجهات النظر والرؤى إلى درجة التطابق في الحكم على الأشياء. ورغم أن تماسك وتوافق أي فريق عمل، شيء مطلوب، إلا أن الولاء للفريق قد ينتج عنه وجود نسخ متعددة من شخص واحد، مما يلغي مبدأ العمل كفريق ويقتل الإبداع والتفكير المستقل، وتنتج تبعا لذلك قرارات تقل في جودتها عن القرارات الفردية. إذ أن التنوع والتعدد في الآراء ووجهات النظر شيء أساسي للخروج بنتائج أكثر صلابة وجودة.
وقد طور عالم النفس الاجتماعي إيرفينغ جانيس في بداية السبعينيات نظرية عقلية القطيع كواحدة من أهم النظريات التي حاولت إلقاء الضوء على عملية صنع القرار السياسي باستخدام مفاهيم ونظريات علم النفس. وقد أوضح جانيس أن عقلية القطيع نمط تفكير ينتج عن الجماعات ذات اللُّحمة القوية، عندما تلغي رغبتهم العارمة في اتخاذ قرارات بالإجماع، قدرتهم على مساءلة وجهة النظر السائدة.
هل فكرت ولو مرة أن تتحدث في اجتماع ثم عدلت عن ذلك رغم أن لك رأيا مختلفا، وذلك حتى لا تبدو وكأنك غير داعم لتوجه الفريق؟ أو هل سبق وقدت فريقا كان فيه الأعضاء مترددين في التعبير عن آرائهم؟ إذا حصل أي من ذلك، فيبدو أنك كنت ضحية عقلية القطيع. ومن مواصفات المجموعة الواقعة ضحية عقلية القطيع أنها تكون واثقة من قدرتها أكثر من اللازم، مع تقليلها لقدرة الخصم وعدم الرغبة في تغيير الصورة النمطية المشكّلة عنه. وفي الغالب فإن صناع القرار المتطرفين بالثقة في أنفسهم تكون لديهم توقعات عالية تفوق كل النتائج المنطقية. ومهما تغيرت الأحوال، يبقون يقارنون خياراتهم الجديدة مع توقعاتهم الأساسية. ولعل في حرب فيتنام شاهدا على ذلك. فقد توقع القادة الأمريكان تحقيق نصر ساحق على الفيتناميين. ومع استمرار الحرب، وجدوا أنفسهم أمام خيارين، إما إيقاف نزيف خسائرهم أو تصعيد الحرب. ولكنهم اختاروا الخيار الأكثر مخاطرة ودفعوا الثمن غاليا تبعا لذلك.
وأول حلقة في سلسلة خسائر عقلية القطيع هي عملية الاستقطاب الجماعي (group polarization)، حيث وجد الباحثون أن النقاش يحرف متوسط رأي المجموعة باتجاه رأي العضو الأكثر تطرفا، بمعنى أن المجموعة المتطرفة تصبح أكثر تطرفا. وفي هذه الحالة، فإن أعضاء المجموعة التي حققت بعض النجاحات في الماضي تميل إلى استقطاب نحو المبالغة في الشعور بقدراتهم الذاتية، فتأتي قراراتهم أكبر من قدراتهم. والحلقة الثانية هي ظاهرة تسمى «الصياغة»، فقد أثبتت دراسات عدة أن الطريقة التي تصاغ فيها الكلمة أو السؤال لها تأثير قوي على كيفية استجابة الناس. فعندما تُقدم البدائل كخيار بين خسارتين، فإن الناس تميل إلى اختيار أخطر البدائل.
وما يزيد الأمر خطورة، أن البحوث التجريبية أثبتت أن تواصل المجموعة عن طريق الحاسب يزيد من عملية الاستقطاب الجماعي، خاصة إذا توفر للأعضاء إخفاء هويتهم أثناء التواصل، مما يضع التواصل الجماعي عبر الشبكات في خطر الوقوع ضحية عقلية القطيع أكثر من المجموعات التي تلتقي وجها لوجه. إلا أنه من المهم الاستدراك بأن العصف الذهني الإلكتروني يحقق تفوقا للمجموعات الكبيرة على الأفراد؛ وكلما كبرت المجموعة كان أداؤها أفضل باستخدام وسائل التواصل الإلكتروني. فهذه هي قوة الإنترنت، انها المكان الذي يمكن أن نكون فيه معا لوحدنا.
وقد حدد إيرفينغ الاشتراطات التي تؤدي إلى عقلية القطيع بالآتي: (1) محدودية البدائل المطروحة للنقاش التي تنحصر غالبا في بديلين اثنين، بدون القيام بمسح شامل لكامل مدى البدائل الممكنة، و(2) لا يوجد مسح للأهداف التي يراد تحقيقها ولا القيمة الناجمة عن القرار، و(3) عجز الفريق عن إعادة فحص الخيار الذي كانت تؤيده الأغلبية في البداية من ناحية عدم وضوح المخاطر والمساوئ التي لم توضع في الحسبان عندما قيّمت في البداية، و(4) إهمال الخيارات التي قيمت في البداية على أنها غير مرضية، و(5) عدم سعي الفريق للحصول على معلومات من المختصين والخبراء الذين يستطيعون تحديد المكاسب والمخاسر المتوقعة من البدائل المتاحة، (6) وجود التحيز كرد فعل على المعلومات الثابتة المستقاة من الخبراء، و(7) عدم قضاء الأعضاء الوقت الكافي في مداولة معوقات تنفيذ الخيار المتخذ، أو النظر في خطط بديلة.
كما صنف الأعراض التي تؤدي إلى عقلية القطيع إلى ثلاث مجموعات: (1) المبالغة في تقدير المجموعة، ويشمل ذلك الوهم بحصانة المجموعة (مما ينتج إفراطا في التفاؤل ويشجع على المخاطرة)، والاعتقاد بأخلاقها المتأصلة مما يجعلهم يهملون نتائج قراراتهم، و(2) الانغلاق الفكري، ويشمل ذلك التبرير الجماعي للافتراضات التي تتبناها المجموعة، والتصور النمطي عن الذين يعارضون الجماعة بأنهم ضعفاء وأشرار ومنحازون وحاقدون وعاجزون وأغبياء، و(3) الضغط باتجاه وحدة الفريق، ويشمل ذلك الرقابة الذاتية على كل الأفكار التي تحيد عن إجماع الجماعة، ووَهم الإجماع على الرأي (إذ يعتبرون السكوت موافقة)، والضغط المباشر على أي عضو يشكك في المجموعة ويُلمَّح له بأنه غير موال للجماعة، وتنصيب حراس من الأعضاء يحجبون المعلومات المعارضة.
ومن أخطر ما قد يحصل لفريق ما أو مجموعة عمل أو لجنة، أن تكون فيها المجموعة صورية وتتحول في الواقع إلى فرد، ويضرب لذلك أمثلة في أدبيات القرارات الجماعية، منها قصة خليج الخنازير في العام 1961 عندما أقر الرئيس الأمريكي كندي ورفاقه خطة سابقهِ، الرئيس إيزنهاور في غزو كوبا وإجهاض ثورتها وإحلالهم ببعض المارقين الكوبيين الذين دربتهم السي آي أي. لم تُحسب العواقب بشكل دقيق، ولم يدقق في تقارير المخابرات الأمريكية، ولم تناقش كل البدائل والحلول. وخلق الوهم لديهم شعورا بالغرور مع تحقير للخصم وقدرته. وانتهت العملية كما هو معروف بفشل ذريع وهزيمة للقوات الأمريكية الغازية.
وهناك أيضاً قصة المركبة الفضائية الأمريكية «تشالنجر» التي انتهت بكارثة انفجارها وموت كامل أفراد طاقمها في العام 1986. كان انفجار تشالنجر فور إطلاقها بسبب فشل أحد أجهزة صاروخ الإطلاق. فقد كان القرار الذي اتخذته وكالة ناسا في ذلك اليوم معيبا، حيث كانت البدائل المطروحة هي الإطلاق أو عدمه فقط. وكانت ناسا قد تلقت تحذيرا من الشركة المسؤولة عن تطوير الجهاز بأن درجات الحرارة الاستثنائية الباردة المتوقعة في ذلك اليوم قد تشكل تهديدا جديا على قدرة الجهاز على العمل. كما تم تجاهل الجوانب الاجتماعية والأخلاقية في صنع القرار، من أجل خفض التكلفة، والالتزام بالجدول الزمني ومتطلبات الضغط السياسي الخارجي.
وتوجد بعض الإجراءات الوقائية التي قد تساعد على خفض احتمالات وقوع المجموعة في فخ عقلية القطيع. إن من المهم أن يكون القائد حياديا، وتكون هناك قواعد وآليات لعمل المجموعة تساعد على المشاركة والشفافية. كما يتوقع من الفريق القيام بعملية فحص للفرضيات الأساسية وراء القرارات الهامة، للتحقق من صحة عملية صنع القرار، وكذلك تقييم المخاطر التي تنطوي عليها. ولاتخاذ قرارات هامة، لا بد من التأكد من وجود استكشاف للأهداف والبدائل، وتشجيع روح النقد، وتجميع المعلومات من مصادر الاختصاص، وأن تكون هناك خطة بديلة، في حالة فشل البديل المتخذ.
إن عقلية القطيع يمكن أن تقوض بشدة قيمة العمل الجماعي، وفي أسوأ الأحوال، فإنه يمكن أن تكلف الناس حياتهم. فكم نحن بحاجة لتجاوز عقلية القطيع وتبني نهج يحفز الإبداع والتعلم، ويعطي للمبدعين والموهوبين الفرصة للعمل لوحدهم مع التفاعل مع غيرهم. ومن واقعنا العربي، هناك الكثير والكثير من الأمثلة على عقلية القطيع، ففكر القبيلة وفكر الحزب وفكر الطائفة كلها عرضة لعقلية القطيع، بل هي البيئة الطبيعية له، حيث وِحدة القبيلة والحزب والطائفة تتفوق على كل شيء. وحيث يختفي النقد الذاتي ويختزل القرار السياسي الجماعي في يد قائد القبيلة أو الحزب أو الطائفة، وتكون القرارات كلها بالإجماع. ويُقصى الفكر المبدع والناقد والرأي المستقل. فإذا كان لدى الغرب عشرة أمثلة على عقلية القطيع، فلدينا آلاف الأمثلة في العصر العربي الحديث فقط، والتي صنعنا بها معظم الكوارث التي حاقت بمؤسساتنا وعوقنا بها تقدمنا.