أمام إحدى كليات أكسفورد الشهيرة نقش أحد المحاربين في الحرب العالمية الثانية على بلاط إحدى المداخل (سيفي أعطيه لمن يعينني على النجاح في رحلتي المقدسة للحج)، ولا أدري ماذا حل بهذا المحارب؟ وهل وجد من يعينه على استكمال رحلته المقدسة أم لا؟.
لكن هذه العبارة شدّت انتباهي ونحن نستقبل موسم الحج هذا العام، والذي يشترك في تعظيم شعائره ملايين المسلمين في أنحاء العالم في مشهد عالمي لا مثيل له، بينما يجمع المسلمين من أنحاء العالم بمختلف جنسياتهم وطوائفهم وألوانهم في رحلة روحانية، يتنقل بينها القادمون من مكان لآخر في موعد واحد وحيز صغير تاركين وراءهم الدنيا وما فيها.
أما سبب توقفي أمام هذه العبارة، فهي النتيجة المنطقية التي وصل إليها هذا المحارب المجهول بعد سنوات طويلة من الحروب، وهي أن السير لمناجاة الله لا يستقيم مع ملابس المعركة، ففي حين أن الحروب تُدار بالمكر والسلاح، تبدو رحلة الحج أشبه برحلة بيضاء تطير بالروح إلى حيث الأماكن المقدسة بعيداً عن أطماع الحياة.
وحتى لو رمى المحاربون السيوف خلفهم من أجل الانحناء أمام مشهد الله العظيم في جبل عرفات، ورمي الشياطين بجمرات العقبة والصلاة في بيت الله العتيق، فإن الحج لن يستقيم دون انشغال وجداني حقيقي بموسم الإسلام المقدس، بعيداً عن تجاذبات التيارات والأهواء والأصوات المرتفعة بغير (لبيك اللهم لبيك..).
أتأمل الكلمات المنقوشة القرن الماضي في مدينة إنجليزية كان يأمل هتلر، كما تواترت الروايات لجعلها عاصمة مملكته التي لم يُكتب لها الخروج إلى الضوء، بعد أن كُسرت شوكته في هزيمته الأولى في مصر، ليبدأ عصر جديد للحلفاء الذين نجوا بأعجوبة من نيران النازية.
اليوم ألمانيا التي كان يحكمها هتلر وبريطانيا التي نقش هذا المحارب الإنجليزي كلماته على أرض مدينتها العلمية الشهيرة يجتمعان في اتحاد أوروبي مشترك، وحتى تلك الصراعات المحفورة في ذاكرة البلدين لم تمنع من إغماد السيوف، وإن لم يجتمع شعباهما في رحلة حج كالتي تجمع الشعوب الإسلامية اليوم.
ومع هذه الحكاية تسترسل الأسئلة أمامي كثيراً حول من يعتقد أن تجمع الحجاج مناسبة للانتصار للفكر أو الطائفة أو الذات، بعد أن أتم عاماً هجرياً متعصباً لفكر أو طائفة، أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟ متى ينتقل هذا الجندي من خضم الحياة الزائفة إلى الحقيقة الأكثر حتمية، ومن الصراع الإقليمي إلى صعيد عرفات.
أحداث كثيرة ساهمت في إضرام الفرقة بين الطوائف الدينية والفكرية التي تشكل العالم العربي والإسلامي اليوم، وحتى التغييرات التي امتدت من المغرب العربي مؤخراً إلى المشرق ولّدت مزيداً من التيارات ومن المحاربين الجدد، لكنها عجزت عن تقريب وجهات النظر أو الدفع في اتجاه قبول الآخر الشريك في الوطن.
(وحتى الدول التي عانت الأمرين في ظل حكم استبدادي هنا أو هناك، بدت التيارات التي وُلدت من رحم الربيع العربي أو تلك التي استفادت من الانهيار المفاجئ للحكومة، وكأنها أكثر استبداداً وأقل استعداداً للتعامل مع المعارضين، وكأن الحاكم المتسلط خرج مرة أخرى في لباس التيارات المعارضة، رافعاً سيفه من جديد).
اليوم نحن أمام مناسبة جديدة لم يدعُ لها بشر، حيث تجتمع حشود المسلمين من جميع أنحاء العالم في أرض الله الحرام بمختلف طوائفهم، وبما حملوه من أفكار ورؤى سياسية متنوعة في صورة من صور التآلف الذي نحن بحاجة إلى إليه، أكثر من أي وقت مضى لإعادة الروح للدول الإسلامية التي تنهشها الفتن.
فإذا كان من السهل على الدول الأوربية التي لا يوحدها الضعف، ولا تجمعها لغة، تناسي الخلافات التي ولدتها مئات الأعوام من الحروب والخلافات البينية، وفتح صفحة جديدة فيما بينها، وقبل ذلك إعادة ترسيم علاقات مواطنة تجمع الشعوب والحكام، أليس من الأسهل أن تحقق الدول العربية والإسلامية ذلك؟.
المسلمون لا يحتاجون اليوم إلا تجنيب المصالح الدنيوية والتحزبات الفكرية والمعارك بكل ما تحمله من أسلحة حربية وكلامية، لإرسال رسالة لكافة السياسيين الداعين للفرقة أو المتاجرين بالمشاعر الدينية هنا أو هناك، بأن ما يجمعنا من روابط الدم واللغة والتاريخ أكبر بكثير من الشعوب الأخرى، فلنترك السيوف خلفنا، ولندعُ الله القبول في هذه الرحلة المقدسة.