ما زالت تداعيات قضايا الأخطاء الطبية تعصف بالمجتمع السعودي لا سيما إذا تسبب به قطاع صحي حكومي يفترض أن ينتشل المريض من مرضه لا أن يلقي عليه سهام المرض، فمن شرق المملكة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها تبذل حكومة خادم الحرمين الشريفين قصارى جهدها لتأمين العلاج المتقدم للمواطن والمقيم عن طريق إنشاء المستشفيات وتجهيزات بأرقى التقنيات الحديثة ومدها بالكوادر الطبية المؤهلة، ومن خلال هذا التقرير نستطلع الرأي الشرعي في قضية الأخطاء الطبية.
قال عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات الإسلامية في جامعة الدمام أ.د.بسام الغانم العطاوي: إن من المقرر شرعًا أن للمسلم حرمة عظيمة لا يجوز انتهاكها. قال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا}، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه» رواه مسلم، وقال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» متفق عليه، وفي سنن الترمذي والنسائي وابن ماجه: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم».
وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في التحذير من إيذاء المسلم والوعيد على ذلك، وهذه النصوص تشمل الأطباء الذين يتجاوزون الحدود الشرعية فيعرضون أرواح الناس وأجسادهم للهلاك أو التلف، وقد اعتنت الشريعة الإسلامية بهذا الأمر، ووضعت الزواجر والعقوبات البدنية والمالية والتعزيرية المناسبة، وبذلك تكفلت بزجرهم وكف أذاهم عن العباد، ولم تطلق العنان لتلك الأيدي الآثمة لكي تعبث بأرواح الناس وأجسادهم، وتعرضها للهلاك والتلف المحقق، ولم تترك تصرفاتهم الجانية تمر دون محاسبة عادلة توجب النظر فيها، والحكم عليها، وإلزام أصحابها بتحمل تبعاتها، ورد الحقوق المترتبة عليها إلى أصحابها من المرضى وذويهم.
إن على الطبيب مسؤولية أخلاقية، ومسؤولية مهنية، وعليه مسؤولية أخلاقية؛ إذ يجب عليه أن يلتزم مع المرضى بالصدق والوفاء بالمواعيد والوفاء بالعقود، والنصح للمريض، وستر السوءات، وحفظ العورات إلا لحاجة. فإذا خالف في شيء من ذلك تحمل مسؤولية مخالفته والأضرار المترتبة على تلك المخالفة، وعلى الطبيب مسؤولية مهنية. ففي السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن». فهذا الحديث الشريف أصل في تضمين المتطبب الجاهل إذا عالج غيره واستضر بعلاجه، ودل الحديث على اعتبار المسؤولية الطبية التي عبر عنها بأثرها، وهو الضمان، وأن دلالته شاملة لمن تطبب، وكان جاهلًا بالطب كلية أو كان جاهلًا بالجزئية التي تطبب فيها، ويدخل في حكم الطبيب: التمريض والتحليل ونقل الدم والتخدير والتصوير بالأشعة والمناظير الطبية، وقد أجمع العلماء على تضمين الطبيب الجاهل وتضمين الطبيب المتعدي الذي يجاوز الحدود والضوابط المعتبرة عند أهل المعرفة والاختصاص، وبين أهل العلم أن موجبات المسؤولية المهنية هي: عدم اتباع الأصول العلمية، والخطأ، والجهل، والاعتداء، وأنه يترتب على موجب المسؤولية: الضمان، والقصاص، والتعزير.
أما الضمان فيكون في حال جهل الطبيب بالمهمة الطبية التي قام بها مع عدم قصد الضرر، وعدم علم المريض بجهل الطبيب، ويكون بعدم التقيد بأصول المهمة الطبية، أو حدوث خطأ أثناء العمل، وأما القصاص فيترتب على ثبوت قصد العدوان من الطبيب سواء تعلق الضرر بالنفس أو الأطراف، وأما التعزير فإنه يترتب على موجب الجهل وعدم اتباع الأصول المعتبرة عند أهل الاختصاص.
أما إذا كان الطبيب حاذقًا وقام بالمهمة على وجهها وأعطاها حقها، ولم يتعد ولم يفرط ولم يقصر في اختيار الدواء كمًا وكيفًا، وبذل ما يمكنه، ونتج من فعله المأذون من المكلف أو ولي المكلف تلف النفس أو العضو فلا ضمان عليه اتفاقًا.
من جهته حرم عضو هيئة كبار العلماء الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك تشهير وسائل الإعلام بأسماء الأطباء أو المستشفيات التي تتعرض للأخطاء الطبية؛ لأن ذلك لا يتوافق مع الشريعة الإسلامية السمحة ولا مع أخلاقيات المسلم، مشيرًا إلى أن هناك فرقًا بين الخطأ الطبي الذي يقع فيه الطبيب المعالج نتيجة تسيبه وإهماله، وبين الطبيب المعالج الذي يعمل إجراءات العلاج كاملة مع الحرص على تطبيقها وفقًا لما تمليه عليه أمانته الطبية، ومن ثم يقع خطأ غير مقصود، مبينًا أن حكم الشريعة في هاتين الحالتين مختلف، وبالتالي فإن العقوبة المقررة في حال تطبيقها من المنطقي أن تختلف.
وبين الدكتور عبدالعزيز الصائغ الأمين العام للهيئة السعودية للتخصصات الصحية، دور الهيئة السعودية في تقييم ممارسي الصحة في تعامل الأخطاء الطبية، وذكر أهم عوامل الجودة الصحية التي تقلل من الخطأ الطبي وهي كفاءة الممارسين السعوديين، ووجود منشآت مجهزة بشكل متكامل وحديث، وتطبيق الأنظمة والمعايير الطبية.
وشدد الصائغ على أهمية متابعة المستجدات في المجال الصحي وهي شراكة بين جهات عدة من وزارة الصحة وجميع مقدمي الخدمات الصحية لتقديم خدمة آمنة تنعكس على تقليل الخطأ الطبي، موضحًا أن الهيئة يبرز دورها في أكثر من عامل، ولعل أهمها الممارس، كما تعنى الهيئة بخريجي الدراسات العليا؛ إذ يوجد أكثر من 60 برنامجًا في مختلف التخصصات، وأن الهيئة تحاول تحسين وضع الدراسات العليا لتخريج أطباء مهرة مدربين تدريبًا عاليًا ليكون صمام الأمان للخدمة الطبية.
وأوضح الصائغ أن الهيئة تراجع أوراق القادمين من خارج المملكة من الممارسين الصحيين، وأن لدى الهيئة أكثر من 15 فرعًا تبدأ بتصنيف الطبيب باعتباره صمام الأمان وتخضع جميع خبراته للتقييم من قبل الموظفين المختصين ومن قبل لجان متخصصة، ويتم التأكد من صحة الشهادات وعدم وجود تزوير، ويتم إخضاع الممارس الصحي لمعايير للتأكد من الخبرة الموجودة لدى الطبيب، مطمئنًا أن أعداد المزورين قليلة جدًا على المستويات كافة، وأن من بين 300 ألف ممارس لا يتجاوز عدد المزورين 70 مزوّرًا، وقد أبعدوا خارج المملكة.
كما أوضح المحامي د.عثمان بن خالد الدعجاني أن مشكلة الأخطاء الطبية معقدة قليلًا، فلا بد فيها بداية من التكييف ومعرفة ما إذا كان الطبيب ممارسًا ومتخصصًا وقام باتباع الإجراءات المعتمده والاحتياطات اللازمة أم لا؟ وهل الخطأ حصل لمجرد خطأ كان حريصًا على تجنبه باتباع طريقة المعالجة المعتمدة؟ أم إنه حصل بسبب الإهمال وتجاوز الإجراء المعتمد؟ وهل وقع الخطأ بسب خطأ فردي أم أكثر من شخص؟ وهل السبب الخطأ الإنساني أم في الآلة المساعدة؟ فهذه الأسئلة ضرورية للتحقق من كونه متعمدًا يلحق المسؤلية الجنائية بالفاعل أم مجرد خطأ وتكون المسئولية مدنية، وأوضح الدعجاني أنه بعد التأكد يكون اتجاه الدعوى، وأضاف إن الإجابة على السؤال الأول أن عقوبة الخطأ الطبي تعتمد على التكييف وليس لها ضابط واضح، ويطبق على المتهم إما عقوبة الحدود أو عقوبة تعزيرية أو كلاهما في الجنايات فيما يتعلق بالحق العام أما الحق الخاص فيقدر بقدر الضرر فقد تنطبق عليه الدية والأرش أو عقوبة أخرى جابرة للضرر، وهنا تقع المشكلة وهي أن التعويضات غير مقننة ولا تجبر الضرر بشكل مجحف بالمتضرر للأسف، وهذا يحتاج إلى حل جذري ويستفاد من خبرات الدول الأكثر تقدمًا في قوانين حقوق المتضررين من مشاكل الأخطاء الطبية.
ولا يعترف الدعجاني بمسمى الخطأ الطبي إلا بعد التكييف، لأنه قد يكون متعمدًا وقد يكون بسبب الإهمال فيكون شبه عمد، وقد يكون فعلًا خطأ حينما يكون المتسبب ماهرً في عمله واتخذ جميع الاحتياطات، وعندما تتطور الإصابة لا بد من التأكد هل كان بالإمكان إيقاف هذه المضاعفات؟ وإن كان بالإمكان إيقافه فمن المتسبب في ذلك؟ والإجابة عن هذه الأسئلة ضرورية للتعرف أين نتوجه؟ فإن كان المتسبب الأول هو السبب بسبب تركه التصحيح فإنه يكون المسؤول وتكون التهمة على السبب الأول وعلى مضاعفاته مجتمعة، واعترف الدعجاني بأن الأخطاء الطبية كثيرة جدًا، ولا نعلم هل السبب هو التهاون في تطبيق المعايير الطبية المقررة دوليًا؟ وقال: إن الجهة المنوط بها الفصل في مثل هذه الإصابات هي اللجنة الطبية والقرارات التي تصدر من هذه اللجنة يمكن الاعتراض عليها بالاستئناف أمام ديوان المظالم.
وقالت استشارية النساء والولادة بمستشفى الملك فهد الجامعي د.فتحية المجحم: إن مهنة الطب مهنة إنسانية بمعنى الكلمة، ولا يمكن لأي طبيب أن يتعمد إلحاق الضرر بأي مريض وما يحدث أحيانًا من أخطاء تكون غير متعمدة، إما لصعوبة الحالة أو لجهل الطبيب في التعامل مع هذا النوع من الحالات لندرتها وعدم وجود من هو أكثر خبرة منه في هذه الحالة وقت حدوثها هذا من ناحية، وفي الناحية الأخرى يمكن أن يكون ما حدث نتيجة مضاعفات للحالة أو للعملية تكون متوقعة، ويفترض أنه قد تم شرحها للمريض قبل البدء في العلاج، وأخذ موافقة المريض على البدء في العلاج على الرغم من المضاعفات وتوقيع المريض على ذلك، وإن افترضنا أنه كان هناك خطأ طبي من قبل الطبيب يتوجب على الطبيب التعامل مع المريض بكل احترام وشرح ما حصل وتبرير الموقف والاعتذار وإصلاح ما يمكن إصلاحه.
وطرح المحامي والمستشار القانوني بدر فرحان الروقي فكرة لإنشاء هيئة مستقلة لمتابعة عمل الأطباء والكوادر الطبية والفنية للحد من الأخطاء الطبية حول العالم العربي، بالإضافة إلى متابعة الأجهزة الطبية وبيان مدى جودتها وفاعليتها وذلك من خلال مشروع (تابع).
وقال المحامي الروقي: إن مشكلة الأخطاء الطبية التي انتشرت في الآونة الأخيرة يتطلب وضع حد منطقي لها، وقابل للتطبيق على أرض الواقع، وذلك عبر بطريقة إلكترونية سلسة وجماعية وتشجيع البحث العلمي والتطوير للكوادر البشرية ضمن منظومة قانونية دقيقة، مبينًا إن الأخطاء الطبي قد قفزت إلى مستويات مخيفة الشيء الذي يتطلب وضع حد لها وإيجاد حلول سريعة لمواجهاتها وتحديد المتسبب فيها.
وأكّد المحامي الروقي أن المشروع دقيق ويحدد المتسبب في الخطأ الطبي إن كان بشريًا أو تقنيًا لكي يتسنى للدول الأعضاء في المشروع تقييم الأطباء والكوادر الصحية ورصد إعمالهم وإنجازاتهم والأخطاء الصادرة منهم.
وأشار الروقي إلى أن الهدف من المشروع هو تسجيل الأطباء الاختصاصيين ذوي الكفاءة المهنية والعلمية العالمية وفق المعايير العالمية عن طريق قاعدة البيانات الدولية والعمل على تحسين الخدمات الصحية في الوطن العربي برفع المستوى العلمي والعملي للأطباء العاملين في مختلف الاختصاصات، وذلك بالتعاون مع المؤسسات التعليمية المعنية ووضع المواصفات والمقاييس الدولية والمعمول بها في منظمة الصحة، بالإضافة إلى تحديد الأخطاء الطبية والمتسببين بها والحد منها وكشف التلاعب بعمليات تزوير في الشهادات الطبية والدورات العلمية، والشفافية في انتقاء الأطباء والكوادر الطبية لدي الدول الأعضاء لكي يحصلوا على الأفضل.
وكشف خبراء في المجال الصحي في وقت سابق أن 25,900 خطأ طبي قد ارتكب في المملكة خلال خمس سنوات ما بين عام 2001- 2006م، وأشارت تقارير صحفية إلى أن نسبة الأخطاء الطبية التي ارتكبت في مستشفيات المملكة الحكومية والأهلية قد ارتفعت بنسبة بلغت 86% خلال الخمس سنوات الماضية، فيما بلغ عدد القضايا المتعلقة بالأخطاء الطبية والتي نظرتها الهيئات الشرعية الطبية في الرياض وجدة فقط حوالي 6851 قضية، في الوقت الذي بلغت نسبة الممارسين الصحيين الذين أقيمت عليهم شكاوى نتيجة أخطاء طبية خلال العام الماضي 2242 ما بين أطباء وممرضين ومختصي تخدير.
ووصل مجموع القرارات الخاصة بإدانة الأخطاء الطبية إلى 670 حالة خلال عام 2009 فقط، فيما بلغ عدد القرارات الصادر بها إدانة للحق الخاص 51 قرارًا، وبالحق العام 130، وجميعها صدرت من خلال 18 هيئة صحية شرعية، وكانت تحقيقات وزارة الصحة كشفت عن وفاة 129 شخصًا نتيجة الأخطاء الطبية خلال عام واحد (2009)، وأوضحت الوزارة في تقريرها السنوي السابق أن الحالات المعروضة على مراكز الطب الشرعي في عام واحد بلغت 2502 حالة، وتشريح 555 جثة، وأكدت أن الحالات المعروضة على الهيئات الصحية بلغت 1356 حالة، وصدر فيها 650 قرارًا من الهيئات الصحية. واحتلت جدة المقدمة بـ287 حالة معروضة، وصدر فيها 108 قرارات من الهيئة الصحية في جدة، تلتها الرياض بـ280 حالة معروضة، وصدر فيها 130 قرارًا من الهيئة الصحية في الرياض.
وكشفت إحصائية صادرة من الهيئة الصحية الشرعية الأساسية في جدة عن ارتفاع عدد الأطباء المدانين بقضايا الأخطاء الطبية بنسبة 100 في المائة للعام الماضي 1432هـ من مجمل الأحكام الصادرة بتلك الفترة التي بلغ عددها 53 حكمًا صادرًا أدان 53 طبيبًا، كما تمت إدانة 66 في المائة من الأحكام الصادرة من الهيئة الطبية الشرعية في جدة للفترة ما بين 1428هـ إلى 1432هـ من مجموع الأحكام الصادرة لـ331 قضية تمت إدانة 221 قضية منها، كما سجلت نسبة الوفيات المدانة 52 حالة وفاة من 86 مجموع الوفيات من الفترة نفسها.