قبل 15 سنة زار مكتبتي كتاب"الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي أهداه أحد الأصدقاء إليّ بعد أحداث 11 من سبتمبر، وأوقفني على حقيقة الحمق كما صوّره أحد الأعراب، حين سُئل عن حمق الرجل فقال: "هو فاسد العقل والمشورة فلا يُشار ولا يُلتفت لرأيه في أمور الحرب".
من هنا، أدركتُ أن قصة الحمق قديمة ومتجددة، وأن الطب الحديث ما زال يؤكد أن الحمق حالة مرضية، بل ليس فقط ذلك، بل ربما يكون معديا، خاصة في عصر الثورات والانقلابات وطغيان البطش وانفلات الأنا وشيوع الحمق الجديد المسوّق للجهل والأنانية والمتشبّع لأي فكر انتقامي أو خارجي.
وذاكرة التاريخ الحديث، لم تنس ردة الفعل الأمريكي الذي لم يكن عقلانيا- وكثيرا ما كانت تبتعد عن العقلانية- بل كان هستيريا يوم صرح "بوش الابن" بأنه سيقود حربا ضد الإرهاب، ورفع شعاره للعالم "من ليس معنا فهو ضدنا" ليحمل العالم بطريقة العقل الجمعي، وسارع لغزو طالبان بدعوى إيواء أسامة بن لادن، ثم غزا العراق عسكريا بدعوى امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، بالرغم من معارضة أعضاء مجلس الأمن، ولكن الحماقة بلغت ذروتها حين توجّه لغزو العراق دون دراسة منهجية، وضبابية المآل دوليا وإقليميا، ولعل نظرة واحدة لتاريخ الحمق السياسي في الدول النامية تجده صارخا، حينما فكّر- مثلا- صدام حسين- رحمه الله- خرق الاتفاقيات مع إيران وخاض حربا لا أهداف لها واضحة، لينتهي مسلسل النهاية لصدام بالطرد من الكويت، وفرض الحصار عليه في العراق، ونستذكر أحمدي نجاد أيضا وهو يحذو حذو صدام حسين بفوارق فنية، ليصرّح بالقضاء على إسرائيل، واستفزازه المستمر بمشروعه النووي، فإيران وإن كانت دولة دينية يحكمها مبدأ "ولاية الفقيه" الذي يعطي للملالي سلطة مطلقة في اتخاذ القرار السياسي، فهي تملك في المقابل مراكز استراتيجية، وفيها عقول نيّرة، إلا أن ثقافة الخوف والخُبث، أدت إلى انتشار الفكر الغوغائي لدى الزُّمرة الإيرانية الحاكمة، والواقع الراهن ما زال يبرهن أننا في مراهقة سياسية وحماقة فكرية مستمرة، أصبحت قدرا لا مفر منه ضحيتها في النهاية الشعوب المستضعفة، ذاك الحمق الذي ولّد في ساحة العالم جماعات وأحزابا متطرفة وإرهابية، كل يوم تأتي بثوب وأسلوب جديد، وصدق المتنبي الذي عاشر كبار الحمقى من أهل الزعامات فقال:
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
ولا أشك، أن أغلب من شاهدوا مسرحية "الزعيم" لعادل إمام والتي تنتهي أحداثها بتصوير نشوة الزعامة والحماقة- وطبيعتها وأحوالها ومساراتها وثمنها- إلى الزهد بها والترحم على حال كل طالبيها، والتي ترسم صورة نمطية لأشكال وأحوال الحمق الذي تعتري أحوال السياسة، لذا فالسياسيون في العالم جديرون بقراءة كتاب النظام "the system" لجورحي أربارتوف الذي نستخلص منه نتيجة مفادها، أن الأوهام الإيديولوجية التي تسيطر على أذهان السياسيين من ناحية، وسوء قراءة النظام الدولي من ناحية أخرى بكل ما تحفل به من صراعات وتحالفات، هي السبب الحقيقي وراء عتبات الانهيار، بالإضافة للافتقار للحنكة والحكمة وشيوع ثقافة الخوف في مجتمع القطيع، خشية القمع الباطش الذي وصل إلى إصدار فكر عشوائي.
والمتأمل في كتاب أربارتوف يجد أن عوامل الانهيار التي أسقطت النظام السوفيتي قائمة ومتسللة للنظام الأمريكي الحالي بالرغم من أن المحافظين الجدد لديهم أيدلوجية تقوم على أن لأمريكا الحق بأن تحكم العالم مطلقا وإلى الأبد، ولو حاولت قوى منافسة كالصين مثلا، أن تتحدى الهيمنة الأمريكية، فلا بد من ضربها فورا، باختلاق علة جديدة، والحماقة المستأسدة المعاصرة حاليا، تظهر بتهميش مراكز الأبحاث الإستراتيجية الأمريكية التي تجعل القادة لا يقرؤون، وإن قرأوا يسيئون الفهم، فمن الذين يسوقون للعالم الانضمام في نادي الحمق الذي يلعب فيه لاعبون، يطّبل حولهم مشجعون حمقى بلا هدف واضح، فهل يستطيع العقلاء السياسيون أن يقتلوا الحمق المتبقي داخلهم، ليقف حمام الدم والقتل، ويلملموا ما تبقى من شظايا الحكمة؟! وهل سيتوقف مسلسل الحمق العربي، ليفيق العالم العربي للحكمة، والتمحور حول مركز قوته، ونسيان ثقافة التبعية المطلقة؟
وسيظل الحمق يُذكر بقول المتنبي: أن لكل بطّاح من الناس له يومٌ بطوحُ. *الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل