الاختراع هو الابن الأشهر للحاجة، وبه تُعرف، فيقال: الحاجة أمُّ الاختراع، لكنه ليس الوحيد، وليس الأهم أيضاً، فالحاجة لها أبناءٌ آخرون.
السعادة واحدة من هؤلاء الأولاد، ربما تكون أقل شهرة من حيث نسبتها للحاجة، لكنها حتماً الأكثر أهمية.
ربما يعتقد الكثيرون، أن أولئك الذين لا يشعرون بحاجتهم للأشياء، لتوفرها لديهم دون جهدٍ في الحصول عليها، أو دون أن يفتقدوها أصلاً، أنهم يعيشون السعادة بكل معانيها.
كالأثرياء الذين لم يذوقوا مرارة الفقر والحاجة للمال، أو الأصحاء الذين لم يذوقوا مرارة المرض، أو الأحرار الذين لم يجربوا وحشة السجن وأبوابه المؤصدة، وغير أولئك.
ليس الأمر كما يظن هؤلاء، فربما فقد هؤلاء سرَّاً من أسرار السعادة!!
لا تظن أن حظوظك من السعادة ناقصة؛ لأنك ترغب في الحصول على أشياء ولا تتمكن منها.
بل أنت تمتلك المعادلة الأكثر أهمية في السعادة، وهي الحاجة للأشياء قبل امتلاكها والحصول عليها، هذه المعادلة التي تجعل من الأشياء أكثر قيمة في نظرك وأكثر أُنساً.
أنت بهذا الأمر تمتلك كنزاً من كنوز السعادة يفتقده من تظن أنهم أكثر سعادة منك!
فشدة الجوع تجعل الطعام لذيذاً، وقسوة البرد تجعل الفراش وثيراً، ومرارة المرض تجعل الصحة تاجا على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا من افتقدها، ونَصَب العمل والكدح يجعل من الراحة شعورا مختلفا.
إذاً نحن عندما نتمنى أن نكون مثل أولئك الذي افتقدوا الحاجة للأشياء بسبب ثرائهم وامتلاكهم لكل ما أرادوا، نحن كمن يتمنى أن يفتقد إكسير السعادة وسرها.
كان كبار السن - وما زالوا -، ممن أدرك شظف العيش وشدته، يحدثوننا أن للحياة قديماً طعماً لذيذاً افتقدوه الآن، رغم أنهم اليوم يأكلون ألذَّ مما كانوا يأكلون قديماً، ويلبسون أجمل وأَرَقَّ مما كانوا يلبسون، وهم مع كل هذا في راحة دائمة، فما الذي تغير؟!.
الذي تغير أنهم افتقدوا حاجتهم لكل هذه الأشياء، فقديماً كانوا يأكلون من جوع، ويلبسون من عريٍّ، ويرتاحون من تعب، ففقدوا مع حاجتهم للأشياء طعمها والفرح بها.
من السُبُل المُضلِّلة التي نسلكها في بحثنا عن سعادتنا، أننا نُغرق أنفسنا بألوانٍ من الكماليات في الملبس والمأكل والمسكن التي لا نحتاجها، ظنَّاً منّا أننا سنكون سعداء بها. ونحن في حقيقة الأمر إنما نُثقل كواهلنا بحملها، وتشقى حياتُنا بها، وفي سبيل تحصيلها، والأموال الطائلة التي ننفقها عليها، والمنافسة مع الغير فيها، وكل ذلك يحدث بألوانٍ من الألم والعَنَت الذي نلحقه بأنفسنا، ثم هي بعد ذلك تفقد بريقها وأنسها بعد برهة يسيرة من الحصول عليها.
فالحاجة إذاً هي الشمس التي إذا سطعت على حياتنا، أذابت حرارتها كثيراً من الشروط الكمالية التي فرضناها على حياتنا ، فيذوب معها قدرٌ كبير من العنت الذي لحقنا بسببها.
البحث وحده عن السعادة لا يكفي، فنحن بحاجة أن نصنع السعادة في حياتنا.
تعالوا إذاً لنصنع الحاجة لتصنع هي بدورها قدْراً من سعادتنا. فنحن عندما نغرق أنفسنا في الراحة، بحثاً عن السعادة، فلن نجدها حتى نصنع حاجتنا لها فنجهد أنفسنا بعمل مفيد ونكدح ونَنْصَب، لنكتشف بعد ذلك أن للراحة طعماً آخر.
وعندما ننفق على أنفسنا وعيالنا بسخاء مُبَالغ فيه، فلن نكون بذلك سعداء، حتى نشعر أنفسنا بالحاجة إليه فنتعلم سياسة الاقتصاد والتدبير.
وإذا أردت أن تسعد بأصدقائك أكثر، فلا تفرط في مقابلتهم، واجعل ذلك يأتي بعد انقطاع يجعلك مشتاقاً إليهم.
وهكذا في كل أمر، يجب أن نتخلص من سياسة إشباع رغباتنا كل ما أردنا، حتى لو كنا قادرين على ذلك. ونتعلم بدلاً من ذلك سياسة الحرمان بالقدر الذي نشعر به بحاجتنا للأشياء فلا تفقد بريقها من أعيننا.
ولنعلم جيداً أننا عندما نسرف في إشباع رغباتنا، فإننا قد نقضي - بالفعل - على حاجتنا للأشياء ، ولكننا بذلك - أيضاً - سنقضي أيضاً على جزءٍ كبير من سعادتنا.