حريّ بنا في بداية كل عام هجري، خاصة في هذا الزمان المضطرب وانتشار فوضى التطرف والأفكار المشتتة، أن نذكر أبناءنا بالهجرة النبوية، التي غيرت مجرى التاريخ؛ ونشرت رسالة المصطفى -عليه أفضل الصلاة والسلام- وأمانته التي لم تكن محلية أو إقليمية وإنما عالمية للناس كافة؛ «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ».
فقد حملت هذه الرسالة في طياتها معاني التضحية والتسامح والتعاطف والتآزر والصَّبر والنصر، والتوكل والإخاء، وجعلها الله طريقا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، انتشرت وأقامت حضارات إسلامية، امتدت لتشمل حياة المسلمين في العالم؛ كما أن آثارها شملت الإنسانية عامةً، قدمت ولا زالت تقدم للبشرية أسمى معاني القيم الأخلاقية والتشريعية، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع. بدأت في مكة وجلجلت في المدينة؛ وتردد صداها في العالم كله، فعمت أرجاء الأرض ونشرت الإسلام من السند شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا.
أرست ركائز المجتمع الإسلامي، على أساس من الوحدة، والمودة، والتكافل الاجتماعي، ورسّخت مَبدَأ الأُخُوَّة بين المُهاجِرين والأنصار، وقد ترسَّخ هذا المبدأ في نُفُوسهم حتى إنَّ أحدَهم لَيَطلُبُ من أخيه أنْ يُقاسِمَه في ماله وأزواجِه!.
«إنما المؤمنون إخوة» أوضحت هذه الآية الكريمة الأساس الذي بنيت عليه العلاقات في المجتمع الإسلامي، حرية، وضمان حقوق، ومساواة، يختَلِف في جميع مَراحِل الحياة عن المجتمع الجاهلي، ويَمتاز عن أيِّ مجتمعٍ يُوجَد في العالم الإنساني.
وسبب هذه الهجرة.. لما كان المحيط الذي بدأ فيه عليه أفضل الصلاة والسلام ينشر دعوته ضيقاً، لم يتعدَّ قبيلتَه أو القبائل المُجاوِرة في مكَّة وما يُحِيط بها؛ وبالإضافة إلى أذى قومه؛ كانت الدعوة من الأمور الشاقة.
فجاءه الإذن من الله -سبحانه وتعالى- بالهجرة إلى المدينة، وقد سبقه كل من أسلم من الرجال وكذلك النساء، وأول عمل للحبيب الغالي عليه الصلاة والسلام بقباء، بناء مسجد قباء، أول مسجد بني في الإسلام.
وفي المدينة التي كانت في منتهى الشوق إليه؛ استقبلته بالحب والبشر والنصرة: "هلم إلينا يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة" وهم ممسكون بخطام ناقته، وسيد البشر يقول: «دعوها فإنها مأمورة».
وبركت الناقة في مكان لسهل وسهيل ابنيّ عمر، وهناك بُني مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها؛ لفضلها الكبير، وكان بناء المسجد أول لبنة في بناء الدولة الإسلامية، حيث ظهرت فيه شعائر الإسلام واضحة جلية؛ وبني بجواره بيت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أما بدء التاريخ الإسلامي فكان في العهد العُمري، حيث اتفق الصحابة والخليفة -رضوان الله عليهم-، على أن يكون بدء التاريخ الإسلامي هو عام الهجرة؛ كان في ست عشرة أو سبع عشرة، أو كما قيل ثماني عشرة.
نحن في حاجة، في ذكرى الهجرة النبوية المباركة، أن نقتدي برسولنا الكريم، ونوحد صفوفنا، ونضاعف جهودنا، ونجمع كلمتنا؛ لمواجهة المخاطر والتحديات ونسعى نحو الخير، وأن نكون متعاونين في وجه من يريد الشر والفتنة بنا، ولا نترك له مجالاً لتبديد أمننا وأماننا واستقرارنا، وأن نجعل حب الوطن مرتبطا بنبض قلوبنا ومشاعرنا يسير دمًا في عروقنا في الجسد والروح منا، وأمنه والدفاع عنه يفوق كل الخطوط الحمراء ويتجاوزها إلى أبعد مدى.
نعزز مبدأ الولاء والانتماء للوطن ولولي أمرنا، ونقوي وحدة الصف، ونحافظ على اللحمة الوطنية شعبا واحدا في وطن واحد.. لا للاختلافات العنصرية والمذهبية ولا لتفرقة الجماعة والأمة، روح وفكر وتوجه واحد في جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ونؤكد أن من يخون وطنه مفلس ديناً ووطناً، فحب الوطن فطرة ودين، فمن ضعف حبه لوطنه؛ اختلت فطرته وضعف دينه.
اللهم احفظ بلدنا واجعله آمنًا مستقرًا، هذا البلد الذي يحسدنا عليه الجميع يستحق الشكر منا، ولا يستحق الجحود.