يولي الخبراء في شأن التنظيمات الارهابية وبخاصة حركات الاسلام الجهادي، اهتماما واضحا فيما يتعلق بالتحولات التي تمر بها هذه التنظيمات، خاصة بعد سقوط غالبية رموزها وتحديدا رموز التأسيس الاولى التي كانت أكثر التزاما ايديولوجيا وأقل تداخلا من الناحية السياسية والدينية، ليأتي من بعدهم جهاديون يؤمنون بلقاء المصالح، وتنفتح علاقاتهم على مخالفيهم من الناحية الايديولوجية، مقابل الحضور والحصول على الدعم المالي والاستخباري، ولم يكن هذا التعاون مجانا، بل كان ملمحا جديدا في خروج هذه التنظيمات عن الضوابط الشرعية، الى المقتضيات السياسية.
سقوط الايديولوجيا كشف ذرائعية وتخادمية بعض هذه التنظيمات، فمن فرار واقامة في ايران وتعاون معها، إلى تعاون الحوثيين واقتتالهم معها وصولا إلى التخادم مع نظام الاسد ومواجهة التنظيمات الاسلامية الاخرى، لكن السؤال الذي يطرح، هل تغير تنظيم القاعدة وأصبح من الماضي، وفرضت داعش نظامها بقوة الحضور والتأثير والامكانات، أم أن هناك من ساهم في صعود داعش على حساب القاعدة؟
لقد توقع المراقبون بُعيد اندلاع أحداث «الفوضى الخلاقة» في الوطن العربي (أو فتنة «الربيع العربي») كل شيء، بما في ذلك صعود أسهم حركات وأحزاب «الإسلام السياسي»، وحتى الصعود اللافت للحركات الإسلامية «الجهادية»، إلا أن يصل الأمر بهذه الأسهم إلى ما يعانيه العالم بأسره مع فظائع تنظيم «داعش».
وصاحب ارتفاع أسهم هذه الظاهرة، تراجع جلي في تسليط الضوء على أبرز تنظيم «جهادي»، على الأقل حتى حدود مطلع يناير 2011، تنظيم «القاعدة» سواه، في ما يُشبه انتقال مشعل «الجهاديات»، وهو انتقال ميداني ورمزي في آن، من تنظيم «القاعدة» إلى تنظيم «داعش»، بكل المقتضيات الدينية والسياسية والأمنية، وبالتالي الاستراتيجية المصاحبة لهذا الانتقال.
لم يكن للعرب والمسلمين والعالم، أن يعانوا هذه التحولات في العمل الإسلامي «الجهادي»، لو لم تتداخل مجموعة من المحددات المحلية/ الذاتية، والخارجية/ الموضوعية التي أفضت إلى هذا الواقع «الجهادي» الذي لا يرتفع، وليس صدفة، أن نقرأ العديد من المتبعات البحثية والإعلامية، ونتابع مجموعة من المحاضرات والندوات التي تتطرق لظاهرة «الجهاديات»، وفي مقدمتها «داعش»، وبدرجة أقل، «القاعدة»، دون أن تشتغل هذه المتابعات على تفكيك «السؤال الحرام»: لماذا هذا الانتقال الصادم اليوم، وما هي أسبابه الحقيقية، المسكوت عنها؟
تطرقت هذه المتابعات إلى بعض أسباب الانتقال، ولكنها لا تجرؤ على التدقيق في جميع المُسببات، لاعتبار بَدَهي، أن بعض هذه المُسببات، مرتبطة بتقاعس صانعي القرار، هنا أو هناك، وبالتالي، كلٌّ يشتغل على نقد ونقض الأسباب التي تورط فيها الغير، وليس الأسباب التي يتحمل مسؤوليته فيها، سواء كانت مسؤولية دينية (وهي أهم المسببات للمفارقة)، أو مسؤولية سياسية أو غيرها من المسببات.
من عبده والأفغاني إلى ابن لادن والبغدادي
لنبدأ بالشق الديني/ العلمي الصرف، لو تأملنا مسار الرموز الإصلاحية، أو المحسوبة على المرجعية الإسلامية الإصلاحية، سواء كانت فكرية أو سياسية أو غيرها، يمكن أن نستحضر الترتيب التالي: لقد انتقلنا من محمد عبده ورشيد رضا، إلى حسن البنا وسيد قطب وبعدها ابن لادن والبغدادي، أي انه عوض الانتقال نحو الأفضل في الإصلاح والنهضة والتجديد (وهي شعارات أغلب الحركات الإسلامية)، انتقلنا نحو الأسوأ.
الإحالة هنا على أهم ورش الأفكار في مواجهة «الجهاديين»/ الورش العلمية والفقهية على الخصوص، فلا زالت هذه الاشتباكات الفكرية متواضعة، بشكل عام، في مجالنا التداولي الإسلامي رغم بعض المبادرات الخاصة بهذه الدولة أو تلك (مشروع «السكينة» والمناصحة الفكرية مثلاً، في السعودية، في سياق المواجهة الدينية والاجتماعية للمشاريع «الجهادية»، أو مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني، في الساحة المغربية، وغيرها من الأمثلة)، ولكن إجمالاً، ما زالت المواجهة الدينية والفقهية والعلمية متواضعة عما هو مفترض أن يتمّ في ربوع العالم الإسلامي، لأننا لا نتحدث عن ساكنة الخليج العربي أو المغرب العربي، وإنما نتحدث عن ظاهرة عصفت بالمسلمين عامة، داخل وخارج الرقعة الإسلامية، بل عصفت حتى بأبناء الأقليات الإسلامية في أمريكا وأوروبا وحتى أستراليا. ( «فيكم صمت»، و «فيكم كَسل») هكذا توجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في خطاب واضح طالب فيه المؤسسات الدينية في السعودية، في أغسطس/ آب الماضي، وواضح أن الأمر لا ينطبق فقط على مؤسسات دول الخليج العربي، وإنما مُجمل المؤسسات الدينية في المجال الإسلامي بأن يكون لها دور واضح في محاربة الفكر التكفيري المنحرف.
بين أيدينا نموذج تطبيقي بخصوص تواضع المواجهة العلمية/ الفقهية لمشروع «الجهاديين»: هل نحتاج للتذكير بأن من يُريد الخوض في الخطاب «الداعشي»، مطلوب منه قراءة وثيقة تحمل عنوان: «ميراث الأنبياء» وحُرّرت قبيل منعطف اعتداءات 11 سبتمبر 2001، وعنوانها الفرعي «سلسلة من الرسائل في بيان توحيد الله عز وجل»، لصاحبها أبو عمر الكويتي، وجاء في مجلد من خمسة أجزاء. الوثيقة، تكاد تكون «مانفيستو داعش»، والاساس التأطيري للرؤية العقدية لتنظيم يحلم بـ «عودة الخلافة على منهاج النبوة بصدق» ويبحث عن «السبيل إلى إقامة الخلافة الراشدة على هدى من الوحى الشريف بدون هوى لجماعة ولا رجال».
تكريس الصراع على «الإسلام الجهادي»
هذا عن السياق الديني والفقهي والعلمي، نأتي لسياقات ضيقة جداً، خاصة بأحلام ومشاريع الإسلاميين بشكل عام، وفي مقدمته التيار «الجهادي» الذي ذهب بعيداً، من الناحية العملية، في مشروع «اختطاف الإسلام» من أهله، ووصل في حالة الانتقال من تنظيم «القاعدة» إلى تنظيم «داعش»، إلى ما قد نصطلح عليه بـ «الصراع على الإسلام الجهادي»، إذا استعرنا عنواناً لاحد أعمال المفكر الاسلامي رضوان السيد [الصراع على الإسلام، 2004].
لقد أحرج تنظيم «داعش» مُجمل الحركات الإسلامية التي ترفع شعار «الإسلام هو الحل»، والتي تحلم بعودة «دولة الخلافة»، وتطبيق الشريعة، بما في ذلك تطبيق الحدود، ويقف تنظيم «القاعدة» في مقدمة الحركات الإسلامية التي تعرضت لإحراج رمزي وميداني بسبب مشروع «داعش»، ولسان حال أتباع البغدادي، أن مشروع «القاعدة لا زال هلامياً، وبعيد المنال، في حين أن «إمامنا البغدادي»، أعلنها صراحة: قيام دولة الخلافة، وتأسيس «الدولة»، وتطبيق الشريعة ومعها تطبيق الحدود، وهو «الاستفزاز» الذي أصاب حتى «الجهاديين» أنفسهم، بالصيغة التي لخصتها مجموعة من الوثائق والرسائل «الجهادية» النقدية «ضد» داعش، نذكر منها رسالتين صادرتين عن أبي محمد المقدسي ضد مشروع «داعش» والإحالة على وثيقة «رسالة إلى الصادقين ممن نفروا إلى أرض الجهاد في سوريا»، ومؤرخة في شوال 1435 هـ، 22 أغسطس/ آب 2014، أو رسالة صوتية تحت عنوان: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، منتقداً ظاهرة «النحر» التي اتخذها جنود «داعش» طريقة لقتل معارضيهم من الفصائل السورية المقاتلة، ويضاف اليها وثيقة «ثياب الخليفة»، وألفها عمر بن محمود أبو عمر، الملقب بأبي قتادة الفلسطيني (الوثيقة مؤرخة في رمضان 1435 هـ، يوليو/ تموز 2014، وجاءت في 21 صفحة، وتضمنت نقداً لاذعاً ضد أيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي، معتبراً أن جوهر الصراع بين الرجلين وبالتالي التنظيمين/ المشروعين، لا يعدو أن يكون صراعاً سياسياً أولاً وأخيراً قبل أن يكون شرعياً أو فقهياً).
فتنة «الربيع العربي» وتجارب «الجهاديين»
وفي اطار هذه السياقات الفكرية والشرعية نأتي للسياقات الميدانية التي ساهمت بشكل كبير في صعود نجم «داعش» على حساب «القاعدة»، ونترك جانباً السياقات السياسية والأمنية والاستراتيجية، لأن المقام لا يحتمل ذلك، خاصة أن هذا السياق بالذات، حافل بالقلاقل، ويعرف تداخل العديد من المصالح، ويتميز بتقلب مواقف العديد من الدول والجهات والمؤسسات. ونقول هذا ونحن نستحضر انخراط العديد من علماء وفقهاء الساحة في دعوة عامة وخاصة المسلمين للجهاد ضد النظام السوري، كما تمّ الإعلان عن ذلك في مؤتمر القاهرة الشهير، في غضون يونيو 2013، وفي غضون سنة ونيف، تنقلب الأمور، وينخرط نفس المشاركين في مطالبة عامة وخاصة المسلمين بالتريث قليلاً وإعادة النظر ومعها الحسابات الخاصة بالوضع السوري. وعليه يمكن لنا أن نختزل أهم مراحل هذا التضخم التنظيمي للداعشيين في ثلاث محطات أساسية، تفاعلت فيما بينها، وأفرزت لنا تنظيم «داعش»:
ــ هناك أولاً قاسم مشترك في النواة الأولى المؤسسة للتنظيم، وهي التعرض لانتهاكات حقوقية من طرف نظام بشار الأسد، سواء تعلق الأمر بانتهاكات تمت قبل اندلاع أحداث الحراك، أو انتهاكات تمت بُعيد اندلاعه، وهذا معطى يُذكرنا بالذي جرى مع بعض رموز تنظيم «القاعدة» (أيمن الظواهري نموذجاً، ويُعتبر احد العوامل المغذية لنزعته المتشددة ضد بعض أنظمة المنطقة).
ــ هناك عامل آخر لا يقل أهمية في تغذية التضخم التنظيمي الذي يمر منه التنظيم اليوم، وهو قدوم قواعد جهادية من ثلاث مناطق: هناك أولاً الجهاديون الشيشان، من ذوي الخبرة الميدانية في الحرب الشيشانية، وهناك ثانياً الجهاديون القادمون من دول المغرب المغربي تونس والمغرب على الخصوص، وهناك أخيراًـ الجهاديون القادمون من القارة العجوز: أوروبا. وبعد الأخذ بعين الاعتبار الثقل التنظيمي لهذه الأفواج الجهادية، مطلوب إضافته على الثقل التنظيمي لجهاديي العراق، وفي مقدمتهم البغدادي ومن معه، وجل هؤلاء من التيار الجهادي المحسوب على الأردني الصريع أبو مصعب الرزقاوي.
ــ من العوامل التي ساهمت في الصعود اللافت لنجم «داعش» خلال الأشهر الأخيرة تحديداً، تلك المرتبطة بتطورات الساحة العراقية، فقد تأكد أن التنظيم يحظى بشعبية كبيرة من طرف سنة العراق الذين عانوا الأمرّين من سياسات نظام ما بعد صدام حسين، أي سياسة المحاصصة الطائفية، وسياسة التمييز والاقصاء والتهميش التي اتبعها نوري المالكي بدعم مباشر من ايران، ومن هنا الترحيب الكبير الذي حظي به التنظيم من طرف مختلف الفصائل السنية في العراق، سواء أكانت إسلامية حركية أم لا، حيث إن اللحظة بالنسبة لهؤلاء، كانت، ولازالت فرصة لتصفية حسابات دينية وطائفية ضد نظام رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وضد طهران.
فوق هذه المعطيات الذاتية، أو المحلية، والخاصة بالمجال التداولي الإسلامي، يتعين إضافة عامل خارجي وازن، يتعلق برهانات العديد من الأنظمة الإقليمية في المنطقة، وفوقها حسابات الولايات المتحدة الأمريكية في الصراع، لأن المتأمل لأداء التنظيم (الاحترافية في الأداء، نوعية الأسلحة، سرعة التقدم و «الغزو». الاتصالات، والمعلومات الكتمان والسرية.) يطرح علامات أسئلة أكثر مما يُقدم أجوبة، حول تواطؤ أجهزة في لعبة إقليمية، تختلف فيها حسابات الدين والسياسة والأمن، وبخاصة من اطراف ذات تماس حيوي في الصراع مثل النظام السوري والعراقي وايران وتركيا وبعض التنظيمات الاسلامية كالإخوان المسلمين.
فوق هذه السياقات، وبما أننا نعيش زمن «الفوضى الخلاقة» سالفة الذكر، اتضح أيضاً أن أحداث هذا «الربيع العربي»، قدمت خدمة ميدانية لمجمل «الجهاديين»، ويكاد يكون عامل هذه «الفوضى الخلاقة»، القاسم المشترك في مضامين ملف فصلية «السياسة الدولية» القاهرية (عدد أكتوبر 2014)، والمُخصّص لموضوع «الجيل الثالث العنف»، وتوقف أبو بكر الدسوقي ملياً عند هذه الجزئية في تأطيره للملف وللظاهرة (ص 69 ـ 70)،[ولو أن دراسات غربية تتحدث اليوم عن «الجيل الرابع للجهاد»، وعن ظاهرة «الذئاب المنفردة»، وخاصة في أوروبا وأمريكا)، ونحسبُ أن منعطف «الربيع العربي» بالذات، يبقى من أهم المُحّددات التي ساهمت في تحول الإغراء «الجهادي» عند الأتباع والقواعد، من تنظيم «القاعدة»، هناك في كهوف أفغانستان وباكستان، نحو تنظيم «داعش»، هنا، بالقرب منا، في العراق والشام.