يمكن الانتصار على تنظيم داعش في العمليات العسكرية التي يقوم بها التحالف الدولي، ولكن التدخل العسكري لا يكفي للقضاء على التنظيم من دون فهم لطبيعة العناصر المقاتلة به، كما يجب دراسة توظيف داعش لعلم النفس في اجتذاب مقاتلين جدد أو على الأقل لتسويق نفسها كمبشر بالخلافة الإسلامية ومن ثم استقطاب مؤيدين. ومن تلك الآليات توظيف الاحتياجات البشرية الأساسية، من خلال آلة إعلامية تختلف عن نظيرتها في تنظيمات أخرى. تعتبر كتابات البروفيسور آري كروغلانسكي ARIE W. KRUGLANSKI - أستاذ علم النفس بجامعة مريلاند - مهمة في فهم توظيف تنظيم داعش للنواحي السيكولوجية في ضم أعضاء جدد، وكذلك في الإبقاء على انتماء الأعضاء الحاليين.
يرى كروغلانسكي أن الانتصار على داعش لا يكون بالعمليات العسكرية فحسب بل بتحقيق نصر في معركة العقول والقلوب أمام المتحمسين للتنظيم. ولا يكفي الخطاب الديني وحده للانتصار في تلك المعركة؛ فلا الدعوة للوسطية والبعد عن الغلو ولا الفتاوى المتواترة لتغير من قناعات المنتمين والمتعاطفين مع داعش. ولكن لا بد للتركيز على الجانب النفسي الذي أجاد التنظيم العزف على أوتاره في تجنيد عناصره، وفي تسويق نفسه للعالم. ومن منظور سيكولوجي، يكون الانجذاب للتطرف المقترن بالعنف نابعاً من استغلال اثنتين من الاحتياجات البشرية الأساسية: الحاجة لإبراز أهمية الشخص، والحاجة إلى الوصول المعرفي.
الحاجة للشعور بالأهمية يقدم تنظيم داعش لمنتسبيه الذين يقاتلون الأعداء مكافأة لا ينالها الكثيرون وهي اكتسابهم مكانة الأبطال أو الشهداء. وقد رصد ريتشارد باريت –مسئول استخبارات سابق- ميل الغربيين ليصبحوا مجاهدين بحثاً عن مغزى ومعنى لحياتهم وهو من الاحتياجات الأساسية التي وضعها علماء النفس. وكثيراً ما يقوم قادة الجماعات الإرهابية بمداعبة هذا الاحتياج لدى الشباب لاجتذابهم، وعلى سبيل المثال توصيف لحال المسلمين المزري في الغرب، ومعاناتهم في العراق، وفلسطين وأفغانستان، والبوسنة من خلال فيديوهات لخطب نارية وكتيبات وغيرها. ويجد هذا الإعلام صدىً لدى الشباب الذي يعيش بدون هدف واضح، في جو من عدم اليقين، ويفتقد الهوية والانتماء كما يوضح باريت. إلا أن داعش نجحت ليس فقط في اجتذاب تلك الشريحة بل وجدت الرسالة الإعلامية للتنظيم قبولاً لدى شريحة أكثر اتزاناً وينظر إليهم باعتبارهم ذوي مستقبل واعد. وعلى سبيل المثال الشاب ناصر المثنى -20 عاماً- المتطوع في داعش تم قبوله بأربع كليات طب، ومثله محمد حميد الرحمن صاحب الوظيفة المرموقة، ومن عائلة ثرية. كما أن مسألة الانعزالية الاجتماعية وارتباطها بصورة الإرهابي غير دقيقة فهناك العديد من التنظيمات الإرهابية التي تضم أشخاصاً مندمجين في مجتمعاتهم بصورة طبيعية.
استغلال الميول البشرية يؤكد كروغلانسكي أن الاستراتيجية التي يتبعها داعش في تجنيد أتباع لها تأثير كبير؛ فمنذ شهور قليلة كان عدد التنظيم 10 آلاف مقاتل، وفي ديسمبر قدرت الاستخبارات الأمريكية العدد بأكثر من 31 ألفا من بينهم 12 ألف أجنبي قدم 3000 منهم من الغرب. ومن منظور نفسي نجد أن عوامل الجذب لدى داعش تركزت بقدر كبير على الطرق السريعة الآمنة التي توفرها للشعور بالأهمية. وتعتمد بقدر كبير على اثنين من الميول البشرية الأصلية: العدوان والجنس. ويعد مطلب الشعور بالأهمية عالمياً لدينا جميعاً وإن كان بدرجات متفاوتة، وليس من الخطأ تلبية هذا الاحتياج.
وعلى النقيض يمكن له أن يكون حافزاً لأعمال إنسانية كتلك التي قدمها مانديلا، ومارتين لوثر كنج، وغاندي. ولكن هذا الطريق يعتبر طويلاً إذ يحتاج إلى عمل شاق ويحتاج للصبر فنتائجه لا تظهر إلا على المدى البعيد، ويفتقر إلى التشجيع غالباً، وإلى فرص النجاح الوافرة. وبالمجمل فهو المضمار البطيء لإشباع احتياج الفرد للشعور بالأهمية. أما المضمار السريع فهو من خلال العنف والمواجهات المسلحة وهو ما حفز الرجال في العصور الوسطى للانخراط في الحملات الصليبية، كما انضم متطوعون من خارج الحدود للمشاركة في الحرب الأهلية بأسبانيا، وكذلك المجاهدون في أفغانستان. وفي الوقت الراهن فإنها تدفع آلاف المتحمسين للانخراط في داعش. وقد وجد نداء التنظيم لحمل السلاح لإقامة الخلافة صدىً واسعاً لدى البعض. ويعتبر العدوان من طرق السيطرة لدى كافة المخلوقات. ومن استراتيجيات داعش التي أجاد استخدامها من منظور سيكولوجي، توظيف الجنس، الذي يعد من أدوات الشعور بالأهمية. ويوعد المقاتلون بالزواج من فتيات تتوق الواحدة منهن للزواج من صورة البطل التي يمثلها عنصر التنظيم. وأشارت تقارير إلى أن هناك مراكز تزويج تقوم فيها الفتيات الراغبات في الزواج من عناصر التنظيم بتسجيل اسمها. وتكون هؤلاء الفتيات مؤملات أن تتزوج الواحدة منهن من بطل، وتنجب منه أطفالاً يكملون مشوار والدهم، بحسب ما جاء في تقرير نشرته جارديان. ويشير إلى أن هؤلاء الفتيات وجدن في داعش متنفسا يجعل لحياتهن معنى من خلال الدور الذي يقمن به، كما أن التنظيم منحهن الشعور بالأهمية في المجتمع الذي يعشن فيه. ويلعب إعلام التنظيم على هذا الموضوع فيجعل من انضمام النساء أمراً مقدساً يتمكنّ به من إقامة أسر تنهض بالخلافة المنتظرة.
الحاجة إلى الوصول المعرفي تعرف بأنها الحاجة للإجابة عن سؤال للابتعاد عن الغموض وعدم اليقين. ويريد الفرد أن يكون ملماً بالمستقبل، وأن يعرف ماذا يفعل، وأين يذهب، وفيها يكون تشكيل وتماسك رؤية الشخص وثوابته الإيمانية. وفي ظل التقلبات العالمية الحالية من اضطرابات في الشرق الأوسط، وموجات نزوح للملايين، وحالة ركود اقتصادي رفعت معدلات البطالة بشكل غير مسبوق. كل هذه التغيرات ولدت حالة من القلق وعدم اليقين، وللتواؤم مع هذا الوضع يرسم أصحاب الإيديولوجيات المتطرفة وجهات نظر مانوية تتسم بالثنائيات الحادة والاختيارات الواضحة: عالم الخير مقابل الشر، القديسين والخاطئين، النظام والفوضى. ويكون العالم إما «أبيض أو أسود» لا مجال فيه لظلال رمادية، كما أن المستقبل بالنسبة لهم يمكن توقعه ويمكن التحكم فيه. وهذا المنظور يكون له تأثير السحر عند الشباب المشوش في المراحل الانتقالية من حياتهم.
ويؤكد كروغلانسكي أنه شارك في أبحاث عديدة خرجت بنتيجة مفادها وجود علاقة وثيقة بين الحاجة إلى الوصول المعرفي وبين التطرف. ويلفت إلى أن هذه العلاقة موجودة بغض النظر عن المكان والزمان، وإن كان التعبير عن التطرف يختلف من مكان لآخر، فمن تطرف ديني لرادكالية عرقية قومية. ولكن علاقتها بالحاجة للوصول المعرفي تظل واحدة فيتبنى الأفراد وجهة نظر متطرفة، ويزدرون من لا يوافقهم أفكارهم. ومع الوقت يجدون وازعاً أخلاقياً يرخص لهم تدمير الآخر بأية وبكل وسيلة.
الآلة الإعلامية لا يخفى على ناظر مدى قوة الجهاز الإعلامي لداعش، مقارنة بأية تنظيمات مشابهة، حيث تقدم الفيديوهات وصور المقاتلين دعوة للآخرين للانخراط فيما يمكن اعتباره عقلية جماعية، كما يوضح جون هورجان أستاذ علم النفس بجامعة ماسشوسيتس والخبير في الإرهاب والأمن. ويضيف أن رسالة التنظيم الإعلامية لا تسوق مجرد فكرة بل تقدم مكاناً يمكن من خلاله تحقيق الفكرة الحلم، وهو ما لم يسبق لتنظيمات أخرى فعله. ويشير إلى أن الخطاب الإعلامي للتنظيم ليس ارتجالياً بل يقف خلفه علماء نفس ناضجون لتوجيه الرسائل بحيث تكون أكثر من مجرد شخص يتحدث إلى كاميرا ثم يبث الفيديو، كما يقف خلفها متخصصون في التسويق. وبدا تأثير هذه الرسائل الإعلامية التي تبث بلغات عديدة في زيادة أعداد المنضمين إلى التنظيم من الغرب. وعن الفيديوهات التي تحمل قدراً كبيراً من الوحشية يقول هورجان: إن التنظيم يوجهها لبث الرعب في صفوف أعدائه، وبين السكان في المناطق التي يحتلها.
ومن جانبه يرى كروغلانسكي أن داعش تمتلك من الأدوات السيكولوجية –ومنها الإعلام- ما يفوق قدراتها العسكرية، ولهذا يجب مجابهتها في ذات المجال وليس بالقوة العسكرية والفرضيات الأكاديمية فحسب. ويقول إن الحرب ضد التطرف يجب أن تتم باستخدام القوى السيكولوجية التي أحسن التنظيم استخدامها لتوسيع قاعدته ونشر أفكاره. ويجب ألا تكون الرسالة الإعلامية المضادة أقل من مستوى خطاب التنظيم الذي جذب الكثيرين ببساطته رغم تطرف المحتوى. كما يجب حشد الشباب والفتيات ضد كل من يقدم صورة سيئة عن الدين وأن يدافعوا عن مكانة الإسلام وهو الأمر الذي يجعلهم يشعرون بأهمية ذواتهم ولكن بعيداً عن التطرف والعدوان. ومن الأهمية بمكان أن تنتشر الرسالة المضادة بكثافة من خلال نماذج لها كاريزما لدى فئات المجتمع المختلفة، وأن تكون الرسالة الموجهة مرنة بحيث تتغير بتغير الظروف. ولا يقلل كروغلانسكي من أهمية حملة التحالف الدولي العسكرية على التنظيم، فمن منظور نفسي يحطم الانتصار على العدو صورته المهيبة، ويجعل الانخراط في صفوفه أمراً محرجاً.