غالباً ما تساعد التوجهات المرتجلة للنخب الحاكمة، للدول الخالية من أي مضمون معاصر، للجنوح صوب حالة تمتزج فيها الشخصانية بالنزعة الشوفينية أو المذهبية التي تحرِّف الحقائق بشكل لا سابق له.
إن ظهور التفسيرات الخاطئة للدساتير والقوانين ضمن مسار الحياة السياسية، لا يُؤسس سوى لمجتمعات منقسمة، ومتصارعة، وسائرة إلى التصادم الحتمي.
إن حلم الحاكم في مثل هذا المجتمع يقوم على قاعدة ثلاثية الاركان، وهي أيضاً بمثابة غايات يسعى إلى تحقيقها، بقدر ما تتحقق القاعدة الثلاثية وتتركز. فالقاعدة الثلاثية تقوم على:
أولاً: تحويل الموضوع السياسي الذي هو قيد التداول، إلى منهاج استراتيجي، يجب على الجماهير ان تتمسك به من أجل انجاز المشاريع المستقبلية!
ثانياً: كلّما اتسعت دائرة الحشد الشعبي تحققت نظرية الرؤية الشمولية الشعبية، وصارت قيادة الجماهير أقدر على ادارة الدفّة. لذلك تسير القيادات خلف الجماهير وليس أمامها.
ثالثاً: ان اتقاء التحولات المستقبلية الممكنة الحصول، يجب أن يبدأ منذ الآن. وذلك بخلق مروحة تحالفات داخلية واقليمية ذات قدرة وقائية.
مع ذلك كله تبقى نقاط التمفصل هنا. هي الحلقات الأضعف، لأن الخارجين الاقليمي والدولي لا يرضخان لذات المعايير الداخلية، وكل حالة انكشاف فيهما سوف تؤدي حتماً إلى اضمحلال مشروع «التدليس» المحلي، وهذا بالضبط ما حصل مؤخراً لنظام الحكم العراقي الذي كان يقوده نوري المالكي.
ففي أميركا حيث صاعق التفجير الأول، يكشف الكونغرس الأميركي عن وثيقة سرية بالغة الخطورة والأهمية. إذ تدحض هذه الوثيقة ادعاءات ادارة الرئيس جورج بوش، ووكالة المخابرات الأميركية، بأن الاستخبارات العراقية في زمن الرئيس العراقي صدام حسين كانت على صلة بمنفذي هجمات 11 ايلول داخل أميركا.
ويرى السيناتور كارل ليفن الذي كشف عن برقية بتاريخ 11 ايلول سنة 2003 بأن محمد عطا احد منفذي هجمات البرجين لم يلتقِ أي مسؤول عراقي، وان اسم احمد العاني أحد أعضاء المخابرات العراقية ألصق لصقاً ولا صحة للقاء الذي أعلن انه تمّ في براغ العاصمة التشيكية سنة 2001. بين المخابرات العراقية ومحمد عطا.
من هنا بدأت تتحرك الأجهزة الأميركية لاعادة الهيئة للأجهزة العراقية السابقة. وبفك التشابك بينها وبين نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الذي نصبته الولايات المتحدة بشكل سافر على رأس هرم السلطة العراقية، زمن برايمر، وشحات زادة.
بعد التحولات، وبعد أن أصرّت الولايات المتحدة على حشر صنيعتها في أضيق الزوايا، ماذا يفعل المالكي الآن، وما هي صورة التحالف الذي حكم العراق تحت شعاري اجتثاث البعث، وتغيير الوجه السياسي للعراق.
البدء من زيارة لبنان
قبل شهرين أقيمت في لبنان ضجة، حول أموال هائلة من العملة الاجنبية، ومن سبائك ذهبية، تخصّ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وهي موجودة في منطقة ما قرب بعلبك اللبنانية. ويقال ان ثلّة من الجيش توجهت إلى ذلك المكان واشتبكت بالنار مع عناصر تابعة لأحد الأحزاب النافذة هناك.
وبالأمس زار المالكي بيروت واستقبل فيها استقبال الفاتحين الاشاوس. الأمر الذي فتح باب التساؤلات والكتابات على أكثر من صعيد، ولكن أغرب هذه الكتابات هي تلك التي صدرت في صحف موالية لحزب الله وحتى لتيار المالكي. كما وانها وجّهت نقداً لاذعاً للحزب وللمالكي وحتى للمرجع علي السيستاني.
المشكلة أن الحقيقة يصعب أن يسكت عنها حتى الشيطان الاخرس، لأن النطق بهذه الحقيقة لا بد منه.
أولاً: الادعاء القائل بأن المالكي هو العمود الذي وقف بوجه أميركا!! حيث سيتبين بأن «كرزاي» العراق. الذي اهتدى إليه المندوب السامي الأميركي «بول برايمر» وعينه بهذا المنصب. كان تلميذاً نجيباً وطيّعاً للاميركيين. ولم يكن يمر يوم واحد إلا ويفتح أجهزة الكومبيوتر مع مستشاري الرئيس بوش لتلقي التعليمات منهم. بل انه تلقف بيده اليمنى الحذاء الذي ألقاه «الزيدي» على الرئيس بوش وهو واقف على المنبر في بغداد لكي يتباهى بأنه حرّر العراق!!
ناهيك عن مطالبة المالكي المتكرّرة لأميركا بأن تزيد وتقوي من وجودها داخل العراق. فكيف بلقاءات المالكي التي لا تحصى مع جماعة «ايباك» الصهيونية. ومع بعض السيناتورية المتعصّبين المطالبين بقيام الدولة اليهودية وتأييد العراق الفوري لها.
ثانياً: يتذرّع المالكي انه وبشار الأسد يقفان حائلاً بين اهدافهما في نشر الديمقراطية في العالم العربي . والواقع ان الذي فعله المالكي هو انشاء أسوأ نظام مذهبي في تاريخ العراق. وأنه أصدر اوامره بإلغاء تقاعد عدد هائل من الموظفين لأنهم لا ينتمون إلى مذهب معين. أما الديمقراطية التي يتذرع بها مع زميله بشار الأسد فنحن نراها على الأرض اليوم في سوريا والعراق.
ثالثاً: ان تفشي الارهاب وتعاظم قوة داعش إلى هذا المستوى يتحمل المسؤولية عنه اثنان، هما نوري المالكي وبشار الأسد. فالاول هو من أفرغ القوات العراقية في الانبار من كل عناصر الصمود والقوة. بل صار السبب في اصدار الأوامر بالانسحاب، وترك الاسلحة بأرضها.
رابعاً: الفساد والسرقة. وهنا نحيل الحديث إلى لجان الشفافية الدولية التي أكدت أن المشاريع التي ساهم فيها البنك الدولي، وعددها ثمانية مشاريع كبرى، سرقت اموالها ولم تنفذ، فيما تبين أن هناك ثلاثمائة الف اسم وهمي اضيف على الجيش ورواتب هؤلاء تصادر من قبل جماعة المالكي. بل ان هناك ربع مليون موظف وهمي لا وجود لهم تذهب رواتبهم إلى حيث ولا يعلم أحد!
ان الادانة الآن ليست للمالكي وحده، بل لكل الذين كانوا يمسكون معه بزمام الأمور وهم ساكتون.
لذلك نرى بعض الأطراف العراقية تبادر الآن إلى تصحيح الخطأ فهي تدعو إلى إعادة تكوين اجهزة الاستخبارات، والامن، وبعض قطعات الجيش العراقي. مستعينة بالعناصر التي اخرجها قرار حل الجيش الذي اتخذه (بول برايمر) بتفويض من الإدارة الأميركية طبعاً.
لكن الاخطر من كل هذا الذي يرتب الآن. هي الدعوة المتحركة التي تطلقها بعض الاجهزة الأميركية النافذة، بضرورة اقامة إقليم (سني) في الأنبار العراقية؟!
ان ذلك يعني جغرافياً قطع مساحة توازي 46% من مساحة العراق، وان بغداد الإدارية سوف تقسم بين شرقية وغربية. وان الثروة البترولية الهائلة من كروك إلى عين (زالا) قرب الموصل إلى بي جي إلى غيرها وما في باطن الأرض، سوف تصير ملكاً لهذا الكانتون.
وخطورة العشائر عندما تتحول إلى احزاب، فإن اخطر التحولات عندما تتحزب القبائل وهي لم تصل بعد في مجتمعاتها إلى المستوى الحضاري، المديني القائم على العلاقات الثنائية المتوازنة.
ان ما يراه العديد من الباحثين في بنية المجتمع العراقي. بأن هذا المجتمع شبه العشائري، وشبه المديني، قد اكتسب شخصيته المميزة. بفعل هذا التقاطع -الذي كان ايجابياً- بين البادية والحضر. وان الخارطة العشائرية متوازنة تلقائياً، ما لم يعرضها وضع سياسي مستجد للخلل. عند ذاك تتحول الحركة العشائرية إلى سلسلة متشعبة من الولاءات. وربما تتحرك روح التبعية عند البعض. فتصبح مناطق برمّتها تابعة لقوى اقليمية تتقارب معها في بعض المسائل الشرعية.
لكن هل يفرز المجتمع القبلي نظاماً سياسياً متكاملاً؟
هنا يبدو الجواب سلبياً، فحسب ما يراه «ابن خلدون» بأن فكرة النظام عند العشائر لا تزال فكرة معادية للحرية الفطرية التي يتمتع بها ابن العشيرة، المتكامل بولائه لسلطة عشيرته، التي هي أيضا عنوان شرفه.
منطقة الانبار وحسب الخريطة العشائرية، تتكون من عشائر كبيرة ومتوسطة وصغيرة. وربما عشيرتا شمر والدليم هما الأكبر. فيما بقية العشائر المتوسطة الحجم مضطرة أن تنتمي بولائها للعشائر الكبرى.
لهذا كله، فإن المؤامرة الجديدة والخطيرة على العراق تتمثل الآن بترسيخ حزب الدعوة في قيادة الاقليم الجنوبي. ودفع قادة الصحوة لقيادة الكانتون السني. علماً ان الاقليم الكردي صار حكراً لحزب مسعود البرزاني.. وهذا هو التقسيم المثالي للعراق كما تراه أميركا بالطبع.