أسباب ظاهرة «الجهاديين الغربيين» معقدة نسبياً، مقارنة مع أسباب «الظاهرة الجهادية» بشكل عام، وهي على غرار الأزمات التي يمر منها العقل الإسلامي المعاصر، تتميز بثقل خصوصية لصيقة بالأقلية الإسلامية، كونها تعيش في فضاء غربي («دار حرب» عند بعض الجهاديين، أو «دار عهد وأمان» عند المعتدلين).
منذ صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن سيئة الذكر، والإعلام الغربي يُسلط الضوء بين الفينة والأخرى على ظاهرة «الجهاديين الغربيين»، ولو بشكل محتشم بداية، وبعدها، بشكل لافت، وخاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق في نيسان/ أبريل 2003، وتبعات هذا الغزو الذي ساهم في ارتفاع عدد هؤلاء، إلى منعطف «الفوضى الخلاقة» التي اندلعت في الوطن العربي في غضون كانون الثاني/ يناير 2011، والتي أفرزت لاحقاً صعود أسهم تنظيم «داعش»، وأفرزت بالتالي، ارتفاعا كبيرا في عدد «الجهاديين» الأوروبيين، سواء كانوا من أبناء الأقلية الإسلامية، أو من الأوروبيين حديثي العهد بالإسلام.
يستوي في ذلك الشباب «الجهادي» المراهق أو «المتمرس»، أو دخول فئات جديدة من «الجهاديين»، لم نسمع عنها من قبل، ولكنها أصبحت واقعاً لا يترفع اليوم، كما لخصت ذلك كلمة مدير «وكالة الأمن والاستخبارات العامة» الهولندية روب بيرثولي، ألقاها في 4 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، أمام منتدى سياسي في معهد واشنطن لمناقشة «التجديد المفاجئ والهائل» للجهادية في هولندا، عندما أقرّ بأن صعود عدد النساء والفتيات، حتى ممن لم تتجاوز أعمارهن الثالثة عشرة، اللاتي يرغبن في السفر إلى سوريا.
أسباب ظاهرة «الجهاديين الغربيين» معقدة نسبياً، مقارنة مع أسباب «الظاهرة الجهادية» بشكل عام، وهي على غرار الأزمات التي يمر منها العقل الإسلامي المعاصر، تتميز بثقل خصوصية لصيقة بالأقلية الإسلامية، كونها تعيش في فضاء غربي («دار حرب» عند بعض الجهاديين، أو «دار عهد وأمان» عند المعتدلين).
بمعنى آخر، هناك من جهة، قواسم مشتركة بين «الجهاديين الغربيين» و «جهاديي» تنظيم «داعش» الذين ينحدرون من الدول العربية والإسلامية، وهناك، من جهة ثانية، مُحدّدات خاصة بالأقلية الإسلامية، وبوضع المسلمين/ الإسلام في أوروبا، تقف وراء ارتفاع أسهم «الجهاديين الغربيين»، بالصيغة التي تُجسدها ارتفاع أعداد ما أصبح يُوصف أمنياً وإعلامياً بظاهرة «الذئاب المنفردة».
قواسم مشتركة
القواسم المشتركة بين الجهاديين العرب والجهاديين الغربيين، تهم أساساً كل المحددات التي تهم الظاهرة «الجهادية» بشكل عام، والتي اشتغلت عليها أغلب مراكز الدراسات العربية والغربية في العقدين الأخيرين، وخاصة بعد صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، وبالطبع، بعد صدمة «الفوضى الخلاقة»، مع فظاعات تنظيم «داعش»، ولن تكون آخر هذه الدراسات التي يُلخص بعضها أسباب تنامي الظاهرة، ما جاء بدراسة حرّرها يوسف ورداني، وصدرت مؤخراً عن «المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية الأهرام»، والذي اشتغل على بعض أسباب انضمام الشباب العربي إلى تنظيم «داعش»، ولخصها تحديداً في ما اصطلحنا عليه بـ «المراهقة الفقهية» و«المراهقة السياسية» التي تقف وراء انبهار الشباب العربي بالأدبيات «السلفية الجهادية».
هناك أيضاً الحاضنة الفكرية والثقافية للتطرف والإرهاب في المجتمعات العربية، ثم استعادة «الحلم الضائع» (ويقصد به حلم «دولة الخلافة» و «تطبيق الشريعة»).
تنطبق مُجمل هذه المُحدّدات على «الجهاديين» الغربيين، وخاصة من فئة المراهقين، وهذا ما تطرقت إليه أعمال أوليفيهروا (Olivier Roy) على الخصوص، وبدرجة أقل، أعمال جيل كيبل (Gilles Kepel)، بما يُحيلنا على أهم المُحدّدات الخاصة بالجهاديين الغربيين، والتي تُميزهم عن غيرهم من «الجهاديين» العرب.
قواسم لصيقة
في خانة «المراهقة الفقهية» التي تعاني منها التيارات «الجهادية» في الغرب، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار تواضع تأثير فقهاء ودعاة الساحة الأوروبية، وهو التواضع الذي يُفسر نهل الأقلية الإسلامية فقهياً، من الفضائيات العربية أو مواقع الإنترنت، أو مواقع التواصل الاجتماعي، وفي أسوأ الحالات، اعتماد وترجمة توصيات منتديات علمية، تُنظم في الساحة العربية والإسلامية، وتحظى بما يُشبه حد أدنى من المصادقة. نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار مضامين وتوصيات مؤتمر القاهرة الشهير الداعي إلى «نصرة الثورة والجهاد» في سوريا، أي مؤتمر يونيو 2013، وواضح أن توصيات هذا المؤتمر الذي حظي بمواكبة إعلامية وازنه محليا وإقليمياً، ومباركة العديد من الأنظمة، تم التعامل معها كما لو كانت «فتاوى» تغذي «المراهقة الفقهية» السائدة أصلاً لدى «الجهاديين» العرب، بله «الجهاديين الغربيين».
في هذا السياق بالذات، يجب قراءة دلالة ما يُشبه سابقة فرنسية، عندما طلبت باريس، وبشكل رسمي، من المغرب توفير التأطير لأئمتها وتلقينهم تعاليم الإسلام الوسطي، وهو الطلب الذي قوبل بالإيجاب. وحسب مقتضيات هذا الاتفاق سينتقل أكثر من خمسين إماماً فرنسياً إلى الرباط مطلع العام القادم من أجل الحصول على دورات تكوينية في العلوم الشرعية والقرآن، والسيرة النبوية، ثم ضوابط الفتوى.
وحسب بلاغ للخارجية الفرنسية، فإن تكوين الأئمة الخمسين سيكون كمرحلة أولى على أن تتواصل هذه العملية في حال أثبتت نجاعتها، ومن بين الأهداف التي سطرتها باريس لهذه الدورة التكوينية هي أن يتمكن الأئمة من أخذ فكرة واضحة عن «الإسلام المستنير المتوسط الذي يعتمده المغرب ومحاولة إبعاد هؤلاء عن الجماعات المتطرفة التي بدأت تجد لها موطئ قدم في فرنسا».
شاءت الأقدار أن تتزامن هذه السابقة مع سلسلة حوادث تعرفها فرنسا هذه الأيام بالذات، تعرف تورط مسلمين، في الهجوم على محلات عمومية أو على العامة في الشارع، كما تم في ثلاث مدن على الأقل، دون الحديث عن تفكيك خلايا إرهابية، بما يُحيلنا على مُحدّد آخر خاص بالأقليات الإسلامية، غالباً ما يتم تغييبه عن عمد في التناول الإعلامي العربي، وحتى في العديد من المنابر العربية.
مُسببات التطرف الإسلامي
إذا اتفقنا على أنه لا يمكن هزيمة «المتشددين» ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، في حال بقيت حالة انسداد الآفاق السياسية أمام الناس، هنا في الساحة العربية، لأن الشباب يحتاج إلى «ضوء» في نهاية النفق، فالأمر أعقد بكثير في الساحة الغربية، مع ارتفاع حالة التهميش والعنصرية التي تعاني منها الأقلية الإسلامية، والتي تتجلى في معطيين اثنين على الأقل:
1 ـ إصرار العديد من الرموز اليمينية على شيطنة الحضور الإسلامي في الساحة الغربية، ومنذ أيام قليلة فقط، أوقفت القناة التلفزيونية الإخبارية الفرنسية (إي- تيلي iTÉLÉ) برنامجاً ينشطه الإعلامي [اليهودي] إيريك زيمور (Éric Zemmour)، بعد الجدل الذي أثارته تصريحاته الصادمة تجاه مسلمي فرنسا، والتي نشرت في جريدة «كوريير ديلا سيرا» الإيطالية، من خلال دعوته الصريحة إلى طرد المسلمين من فرنسا، ويأتي ذلك، على هامش صدور كتابه الأخير المستفز الذي يحمل عنوان: «الانتحار الفرنسي» (Le suicide français)، والذي يدعو إلى وقف هجرة المسلمين وأطلق على تلك العناصر القادمة من أصول غير فرنسية بأنها «تسونامىديموجرافى»، مؤكداً أن «7 ملايين مسلم في فرنسا يهددون الصفاء العرقي». (يومية «لوفيغارو» الفرنسية اليمينية [عدد 16 تشرين الأول 2014]، احتفلت بأرقام المبيعات القياسية التي حققها الكتاب في فترة وجيزة).
2 ـ يأتي المُحدد الثاني من خلال ممارسات اجتماعية تمس مشروع إدماج المسلمين، عبر التقليل من حظوظهم في الظفر بمناصب شغل، حتى لو كانوا أهل كفاءة، وقد أصبحت الظاهرة تبعث على القلق خلال السنين الأخيرة، بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا خلال العقد الأخير أولاً، وبسبب خشية نسبة من الساكنة الأوروبية أن ينجح الإدماج الغربي للمسلمين في «خلخلة» القيم الغربية (المسيحية على الخصوص).
إضافة إلى هذين المعطيين، واللذين يغديان، بشكل أو بآخر، نزعة الانغلاق ثم التشدد بداية، فالتطرف والقابلية للقيام بفعل إرهابي لاحقاً، يجب إضافة دور العامل السياسي في تغذية أفكار «الجهاديين الغربيين».
عندما صرّحَ رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في 18 حزيران 2014 أن «تهديد الجهاديين البريطانيين العائدين إلى البلاد لتنفيذ هجمات إرهابية بات أكثر خطورة لدى العائدين من سوريا والعراق منه للعائدين من منطقة افغانستان/ باكستان»، فقد كان عليه أن يوضح للرأي العام البريطاني أيضاً مسؤولية العديد من الدول الغربية (ومنها بريطانيا) في صعود المد «الجهادي»، سواء عبر نتائج هذه السياسات تجاه العديد من القضايا العربية المصيرية، أو عبر احتضان العديد من رموز التطرف الإسلامي في لندن (التي كانت توصف بعيد اعتداءات نيويورك واشنطن بـ «لندنستان»)، وكانوا حينها، يصدرون «الفتاوى» ضد الأنظمة العربية والإسلامية، بل إن بريطانيا احتضنت أبو قتادة الذي أصدر «فتاوى» تجيز قتل النساء والأطفال في الجزائر، كما تم فعلاً في ما اصطلح عليه بـ «العشرية [الجزائرية] الدموية»، دون الحديث عن لائحة عريضة من الرموز «الجهادية» التي حظيت بحماية بريطانية.
صراحة مكاشفة أمنية
على صناع القرار في الفضاء الغربي، الإقرار بأن صعود أسهم «الجهاديين الغربيين»، هو نتاج لشروط وأسباب ذاتية وموضوعية، كما توقفنا عند بعضها في هذه المقالة، ولكن هذا الإقرار قلما نطلع عليه، لأن السائد رسمياً، لا يخرج عن شيطنة الوجود الإسلامي، واختزال الأمر في التشدد الديني والمدونة الفقهية، في حين أن الأمر مركب وأعقد من هذا الاختزال، ويُحسبُ للمسؤول الأمني سالف الذكر (مدير «وكالة الأمن والاستخبارات العامة» الهولندية روب بيرثولي)، الإقرار أولاً بأن «التعاون الدولي [لمحاربة الإرهاب] أمر ضروري فقد سافر أكثر من ألف مواطن فرنسي، وما بين 500 و1000 مواطن بريطاني وأكثر من 500 مواطن ألماني إلى العراق وسوريا. بالتالي، لا يزال الطريق طويلاً في مواجهة الفكر المتطرف وفهم عوامل الجذب فيه. وللأسف، لم تُحل شيفرة هذا اللغز بعد، ولا يمكن الرد على الدوافع من خلال عمليات مواجهة معقولة وفعّالة إلا عندما يتم فهم هذه الدوافع».
اعتراف أمني صريح يكاد يندرج في خانة تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، في معرض الحديث عن ظاهرة مركبة، وتزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.