مجلس التعاون الخليجي وبعد مرور فترة زمنية أعطت نضجا جيدا لتجربته، وامام التحديات الراهنة التي يواجهها والمتغيرات الخارجية التي تتواكب مرور العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين
بطبيعة الحال، تخضع اقتصاديات الدول- حالها حال السلع والأسواق وغيرها كل عام- لمستجدات وتطورات. غير أن الاقتصاديات، كونها تهم حياة البشر، عادة ما تخضع لتقييمات جادة وشاملة ومتأنية مع بداية كل عام بغية التعرف على مساراتها ومدى حاجتها لإجراءات تحفيزية أو معالجة جوانب قصور محددة لكي تؤدي دورها في رفاهية البشر وتحسن معيشتهم.
واللافت للنظر عند الحديث عن متغيرات وتوقعات الاقتصاديات الخليجية في مطلع كل عام، نجد أنها تكاد تخضع لنفس المتغيرات مع شبه تكرار للتحديات الجوهرية التي تواجهها. ويعود ذلك إلى أن هذه التحديات هي ذات طبيعة طويلة الأجل. كما يعود في جانب منه أيضا إلى التباطؤ في المعالجات الموضوعة لمواجهة هذه التحديات. والحصيلة أن هذه التحديات باتت تتجمع لخلق ضغوط متزايدة تفرض- أول ما تفرض- ضرورة وضع المنهج السليم للتعامل معها، والتعرف على الإمكانيات والموارد المتاحة، وكيفية توفير السياسات والمستلزمات الضرورية لمواجهتها، وعلى الرغم من أن إيرادات النفط، وهي المتغير الرئيسي المؤثر في الاقتصاديات الخليجية، هي في الوقت الحاضر آخذه في التراجع وعند مستويات غير مريحة بالنسبة لأغلب دول الخليج، الا أن خبرة الماضي تظهر لنا أن هذا الوضع يجب ألا يكون مفاجئا او استثنائيا، حيث حدث في مرات عديدة تدهور أسعار النفط دون سابق إنذار وحتى دون مقدمات اقتصادية سليمة.
وهذا يلقي بظلال ثقيلة على توجهات تنفيذ برامج التنمية التي تولي الميزانيات الحكومية دورا رئيسيا في تنفيذها. واذا كانت مسؤوليات واضعي هذه الميزانيات قد انحصرت في رسم خارطة أوجه الايراد والانفاق الحكوميين بحسب اولويات معينة، فان مسؤولية مواجهة التحديات الناجمة عما آل إليه حال هذه الميزانيات خاصة في ظل تراجع أسعار النفط يجب أن تتسع لتضم كافة شرائح المجتمع.
إن المسؤولية لن تنحصر هنا في محاولة التغلب على الآثار السلبية الناجمة عن تراجع الايرادات الحكومية في أي لحظة ومحاولة البحث عن مصادر لسد العجز كما يحدث في كل مرة، بل إن طبيعة التحديات الجديدة التي تواجه دول المجلس، تستدعي ان تتسع تلك المسئولية لتطال خطط وتوجهات التنمية ككل. فالظرف الصعب الذي تمر به دول المنطقة- من حيث المناخات السياسية الإقليمية والعالمية وتشعّب التحديات الاقتصادية العالمية وأسواق النفط- يمثل فرصة ملائمة لمراجعة تلك الخطط والتوجهات باتجاه تكريس قيم ومفاهيم جديإدة للتنمية تمثل الحل طويل الامد لمعضلة تقلبات اسعار النفط ومن ثم ايراداته.
ومن التحديات الرئيسية التي طال الحديث عنها، ومعالجته سوف يسهم بفاعلية في تخفيف آثار تقلّبات النفط، هو زيادة إنتاجية الاقتصاد والفرد الخليجيين. إن تبنّي مفهوم «تعظيم نتاجية الفرد» و «تعظيم انتاجية الاقتصاد» في المجتمعات الخليجية يمثل احد المداخل الممكنة للحديث عن استراتيجية تنموية طويلة الامد. وتبنّي هذا المفهوم- باعتقادنا- يجب ألا يكون على اساس اقتصادي او تقني بحت، وإنما يجب ان يكون تبنيا شاملا لكل ما يتصل بالمفهوم من نواح ثقافية واجتماعية واقتصادية.
وعند القول إن المطلوب هو تعظيم انتاجيه الفرد، وتحويله الى عنصر منتج الى اقصى الحدود الممكنة، كذلك تعظيم إنتاجية الاقتصاد لرفع كفاءته التشغيلية، فان ذلك يستدعي مناقشة كيفية تحقيق هذا الهدف، ومعالجة نواحي القصور التي تحول دون تحقيقه، وذلك من خلال تهيئة المستلزمات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي تسهم في دفع انتاج الفرد الى اقصى الحدود الممكنة.
كذلك عند الحديث عن التحديات الاقتصادية التي تواجه دول المجلس خلال العام 2015 لا بد ان يتناول الحديث النواحي الاقتصادية والمجتمعية الاخرى، خاصة ما يتعلق بالتكامل الاقتصادي ودور القطاع الخاص، وبرامج الإصلاح الاقتصادي وتنمية الموارد البشرية، ووضع الاهداف والسياسات والاجراءات الملائمة لتحقيق هذه الاستراتيجيات. فلم يعد الحديث عن التكامل الاقتصادي الخليجي ترفا أو حاجة ثانوية، بل يرتبط بالأمن الاستراتيجي الخليجي سواء على صعيد الحكومات أو المجتمعات أو الأفراد.
لابد من تسريع الخطوات لتحقيق التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، وذلك من خلال الاهتمام بالبعد التكاملي في خطط وبرامج التنمية بدول مجلس التعاون مع التوسّع في المشروعات الخليجية المشتركة مع السعي للالتزام بالبرنامج الزمني لقيام الاتحاد الجمركي وتفعيل عناصر السوق الخليجية المشتركة التي مضى على إطلاقها سبعة أعوام.
كذلك لابد من تبنّي برامج لزيادة مساهمة القطاع الخاص في التنمية سواء من خلال الاستثمارات الجديدة او برامج الخصخصة، مع مراعاة الأبعاد الاجتماعية ودراسة التحديات التي تفرضها العولمة في مرحلة التطبيق المتزايد لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية كي تتعامل معها دول المجلس مجتمعة ككيان اقتصادي موحد، وكذلك التنسيق بين خطط التنمية في دول مجلس التعاون في ضوء خبرات التخطيط الماضية والمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية الجديدة.
كذلك، هناك ضرورة لإعطاء اهمية اكبر لبرامج تنمية الموارد البشرية كمحور رئيسي لمسيرة التنمية ورفع مستوى التعليم الاساسي ووضع سياسة سكانية واضحة تهدف الى ايجاد توازن بين معدلات النمو الاقتصادي والسكاني بغرض رفع المستوى المعيشي للفرد وتحديد دور الحكومة في النشاط الاقتصادي وتطويره ليقتصر على دور الموجة الاستراتيجي وتوجيه الانفاق العام تجاه تحقيق وتطوير الوظائف الاساسية للدولة وما يعجز القطاع الخاص عن القيام به او لا يرغب في ادائه، كذلك إعادة تنظيم اسواق العمل بين دول مجلس التعاون بهدف معالجة مشكلة البطالة في دول المجلس واحداث تغييرات ايجابية في التركيبة السكانية.
ان مجلس التعاون الخليجي وبعد مرور فترة زمنية أعطت نضجا جيدا لتجربته، وامام التحديات الراهنة التي يواجهها والمتغيرات الخارجية التي تتواكب مرور العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين فقد اصبح من الضروري ان يكون هناك تصور شامل الاطار يجمع وينسق جهود وفعاليات المسيرة التنموية في مختلف مجالاتها وابعادها الرسمية والشعبية في المرحلة المقبلة.
لذلك فان أي مجهود حقيقي لوضع خطط تنموية تكاملية بين دول مجلس التعاون الخليجي لابد ان يقوم على أطر وأهداف وسياسات واضحة والأهم أن تكون قابلة للتنفيذ.