ليس وحده الكتاب ما يشكل الوعي المجتمعي. ولا ينبغي أن يكون كذلك. لأن الوعي مسؤولية كل المكونات الاجتماعية، وبالتالي فهو نتاج عدة مستويات. فإلى جانب الكتاب يلعب الإعلام والجامع والمدرسة والشارع أدواراً هامة في تشكيل ذهنية الفرد ووجدانه. ومن خلال ذلك التكاتف بين تلك المضخات يتولد الوعي بالوطن. أي من المنزع الثقافي الذي لا يرسم الحدود الجغرافية للوطن وحسب، بل ينمي الإحساس العاطفي به.
وعند فحص الثقافة المتحكمة في وعي الفرد يلاحظ بمنتهى الوضوح غلبة الثقافة الشفاهية، المتمثلة في الخطابة بكافة أشكالها، إلى جانب الإعلام الذي بات يندرج في ذات التصنيف، وكذلك مواقع التواصل الإجتماعي التي يطغى عليها التفكير الشفاهي أيضاً. وهي منصات مشحونة بخطابات الكراهية، والاستقطاب الطائفي، وبث الفرقة بين مكونات المجتمع. والترويج الواعي واللاواعي لثقافة العنف. الأمر الذي يؤسس لتفسُّخ النسيج الاجتماعي، ويتبعه بالضرورة زعزعة أركان مفهوم الوطن.
يحدث هذا لأن تلك المنابر تعمل على صناعة النجوم الإعلامية والرياضية والدعوية، وتغييب الثقافة البنائية بما أنها العامل المؤسس لفكرة الوطن. وهو أمر طبيعي، فالثقافة الشفاهية تنطلق إما من نزعات فردية، أو بموجب دوافع ربحية، وبأدنى درجة من المسؤولية الوطنية أو الأخلاقية أو الاجتماعية. وهو ما يعني تأسيس معنى الوطن على أوهام ذوات نزقة أو بمقتضى صفقات غير مبنية على حس وطني.
وهذا هو ما يفسر الفوضى في تناول موضوع الوطن. حيث تشكل الثقافة الشفاهية قيمة مهيمنة على الوعي والوجدان. ولذلك يتجرأ كل من يختزن في داخله فائضاً من الكلام العادي للحديث عن الوطن، وطرح المقترح تلو المقترح لتشييده وتحصينه والذود عنه. اعتقاداً منه أن ما يتفوه به يشكل قيمة معرفية يحسب حسابها في ميزان المواطنة. في الوقت الذي يمارس فيه عملية هدم واعية أو لا واعية لمفهوم الوطن.
كل حديث مهما كان ضئيلاً أو هامشياً يصب في معنى الوطن. ولذلك يراعي الكاتب الحقيقي كل ما يخرج من بين شفتيه. وهو سلوك لا يتأتى للإنسان بالصدفة، بل بمقتضى تربية إنسانية. وهي فروض تربوية وطنية لا يعرف أبجدياتها الكاتب الرياضي الذي يباهي بتعصُّبه، والمذيع التلفزيوني الذي يستعرض تفاهته، ورجل الدين بصورته أمام جماهيره، وكاتب المقالة الحالم بتكثير قرائه، ومرتاد مواقع التواصل الاجتماعي الذي يلوث تلك الفضاءات بهذيانه. فكل تلك أعراض للثقافة الشفاهية التي لا تبني وطناً بقدر ما تضع اللبنات الأولى لوطن وهمي.
الوطن لا يقوم على الخيالات والأوهام، بل على وقائع مادية ومعنوية. وهي وقائع تأخذ شكلها المنطقي في البناءات الثقافية التي تحتويها الكتب. على اعتبار أن الكتاب نتاج ذات رائية وواعية. حيث يُفترض أن ينطلق تفكيرها من موقع الفعل وليس رد الفعل. وبالنظر إلى أن الكتاب أيضاً هو الشكل البنائي المضاد لارتجالية الشفاهي. ولكن الملاحظ أيضاً، أن الكتاب ذاته أصيب بذات الأمراض التي تعاني منها الثقافة الشفاهية النيئة. حيث صار المشهد يستقبل ركاماً هائلاً من الكتب الموبوءة بالطائفية والمناطقية والقبائلية والفئوية. وهي نعرات تفتيتية لمفهوم الوطن، ولم تتولد هكذا بشكل مفاجئ، بل بموجب قانون معروف للتحلّل والتفكُّك.
المشكلة إذاً ثقافية، ولا يمكن لمفهوم الوطن أن يدخل في تلك الفوضى المخلّة إلا بسبب تغذية ثقافية مرتبكة أو ناقصة، قوامها تلك الشفاهية اللامسؤولة، التي تسيج الوطن بأوهام زائفة. أشبه ما تكون بالقشرة التي تخفي خرابات مؤجلة. وهو دمار بمقدورنا إيقافه بالانتصار للكتاب، الذي يشكل مرجعية للوعي قبل أي شيء. ففي ظل هذا التيه يحتاج الفرد والمجتمع إلى مرجعية وطنية، محلها الكتاب. ليس ذلك الكتاب الذي يتغنى بالوطن ومآثره. وينحقن بجرعات عاطفية مضاعفة. ولكن بالكتاب التنويري الذي يضيء للفرد معاني الحياة، ويزرع فيه فكرة حب الآخر وجدية العمل والتهذّب بالفنون الراقية.
* ناقد