يأبى ولاة أمورنا العظماء أن يشعرونا بحدوث أي منغصات، طيلة مسيرة حكمهم المطرزة بنماءٍ يتبعه نماء، فكل ملكٍ يحكمنا يسعى بمضاعفة جهد سلفهِ لسعادة شعبهِ بمنحهم المزيد من العطاء، ففي اليوم الذي لم يجف دمعنا ويندمل جرحنا على فراق حبيبنا (أبو متعب)- عليه رحماتُ ربنا- يأمر مليكنا الرشيد سلمان وبغرة عهده الجديد بفتح خزينة الدولة للإغداق بخيراتها على من تولى أمرهم بصرف راتبين لموظفي العام والعسكريين والمستفيدين، وحزمٍ أخرى تنموية لدوام مسيرة الرخاء، في زمنٍ تواجه فيه الدول عجزاً حاداً بالتوازي مع التهاوي لأسعار البترول وقلقٍ كبير من مصدريه وحتى الدول الصناعية، من غياهبِ هذا المصير، فلم يأمرونا بشد المئزر مع أن جُل اقتصادنا من عوائد نفطنا، لله درهم في حكمهم لشعبهم، فقد أثبتوا للغريب وللقريب أنهم كرماء، في وقتٍ جثت فيه على رُكبها موازنات دولٍ عظمى تحت الرمضاء، ليس هذا فحسب بل ومن أول أسبوع، منذ بزوغ فجر عهده المجيد اتخذ خطوات جريئة تهدف لإعادة البناء الهيكلي والتنظيمي بمفاصل الدولة عبر ضخ دماء وزارية شابة أغلبهم جاء من القطاع الخاص المتوقد بالحيوية والنشاط والأداء العالي والمثالي، كما هو معروف عن رجالاته، وإلغاء 12 مجلسا من المجالس العليا لوأد البيروقراطية، وتوفير ميزانياتها بدلاً من صرفها على أفلاك تدور بحلقات مفرغة وتعديله السليم- وفي الصميم- لقطاع التعليم.
ليس هيناً إصدار 34 أمراً ملكياً نافذاً في أسبوع مُذ تسلم الملك سلمان عرش البلاد، فتغيـيراته جوهرية فورية ضاربة في العمق الإستراتيجي، تسعى لإيقاف كل دواليك روتينية متشعبة وبالرتابة متشبع. وبلا شك فإن هكذا أوامر تم سكها ودراسة أبعادها وارتداداتها وزواياها ومساراتها من كل اتجاه، وبتخطيط محكم وتكنيك ملهم. وإن دل على شيء فهو يدل على أن الملك سلمان ضليعٌ بالعمل المقرون فكرياً وإستراتيجياً لضمان نجاحه تنفيذياً على كافة الأصعدة.
وليست في ذلكم غرابة، فهو القارئ للشأن المحلي والعالمي، والمثقف والمطلع حتى على ما يُكتب بأروقة بلاط صاحبة الجلالة، وهو المؤرخ والمتجذر بالأنساب والمتغلغل بعلاقاته الشعبية العميقة على المستوى العائلي والقبلي بطول وعرضِ البلاد، وأمين سر الأسرة الحاكمة، تمرّس العمل الريادي المخضرم لأكثر من ستين عاماً بدأها حاكماً لمدينة؛ أصبحت من أضخم العواصم بالشرق الأوسط وأسرعها نمواً وتطوراً عالمياً، حتى أضحت الرياض فتية وبحضورها قوية.
لقد انصهرت بأبي فهدٍ تجارب وخبرات ومعاملات سياسية داخلية وخارجية، من خلال ملازمته لستة ملوك سبقوه بحقبٍ مختلفة، حيث كان أمين سرهم والمقرب منهم ومستشارهم الأول والمطلع على ما يُدار في مؤسسة حكمهم، وليس إقدامه ألبتة على هذا التغيير الكبير دليل مثالبٍ بعمل سلفه -أبو متعبٍ رحمه الله-. فكما أن لكل زمانٍ دولة ورجال، فلكل حاكمٍ بعمله الإداري صولة وجولة لا محال، بدون مزايدة على أحدهم أو من كان معهم من الرجال.
إن أهل المملكة محسودون على حكامهم، وإن قادتهم مغبوطون بحب وولاء شعبهم، حتى شعارالدولة (السيفان والنخلة) إن أردنا تفسيره من زاوية أخرى، فسنرى السيف الأول حكامنا، والسيف الآخر شعبنا، وكلاهما للدين والعقيدة حاميان، وعن الشمائل والفضائل مدافعان، والمتمثلان بالنخلة الطيبة، تحت راية الشهادتين لا يُنكس علمها إطلاقاً، بما أن دستورنا القرآن والسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركيزة، ولعلنا نلحظ توفيق الله لبلادنا أن جعل كل حاكمٍ استلم زمامها، يكون ذا خصائص موائمة لنفس ظروف وتحديات المرحلة التي يحكمها. نحن أمام نقلة نوعية- بإذن الله ثرية- بمعية الله ثم بمعية ملكنا سلمان العارف لأسرار الزمان والمكان، فلنسر معه على هدى الرحمن.