في كتابه «الفضول» (2015)، انتقى ألبرتو مانجويل مجموعة مختارة من الكُتّاب الذين أثاروا خياله، وبدأ كلَّ فصل من فصوله السبعة عشر، بسؤال خَصصه لأحد المفكرين، أو العلماء، أو الفنانين، أو غيرهم ممَّن ابتكروا طرقًا جديدة في طرح سؤال «لماذا؟»، السؤال الذي يُعَد مرآةً تعكس الفضول الذي ظلَّ عبر العصور دافعًا من دوافع الإنسان للمعرفة والاكتشاف، والذي يظهر في العديد من المظاهر، وفي سياقات مختلفة كثيرة على امتداد فصول التاريخ الانساني.
الفُضُول
«وهي على فراش الموت، رفعت جيرترود شتاين رأسها وسألت: «ما هو الجواب؟»، وعندما لم يأتها الجواب من أحد، ابتسمت وقالت: «إذًا، ما هو السؤال؟»
«سيرة حياة جيرترود شتاين»
ينتابني الفضول عن معنى الفضول!
«لماذا»، هي واحدة من أولى الكلمات التي نتعلمها ونحن أطفال؛ ربما لأننا نريد أنْ نعرف شيئًا عن هذا العالَم الغامض الذي دخلناه دون إرادتنا، أو رغبةً في فهم النظم والقوانين التي تحدد حركة الحياة، أو لاحتياجنا الفِطريِّ للتعامل والتواصل مع غيرنا من سكان هذا العالم.
بعد الثرثرات والهمهمات الطفولية، وبمجرد أن نستطيع أن نعبّر بجُمل مفهومة، فإننا نبدأ في سؤال «لماذا؟» ثم لا نتوقف أبدًا! ولكننا بعد فترة وجيزة من طرح هذا السؤال الحيويِّ، نكتشف أنَّ فضولنا نادرا ما يُقابَل بإجاباتٍ شافية أو ذات معنى، إلا أننا لا نكف عن الفضول، بل تزيد الرغبة في طرح المزيد من الأسئلة لما في التحدث مع الآخرين من متعة، كالتي يشعر بها أيُّ مُحقق، فالتأكيدات تميل إلى التقييد، والأسئلة مأزق، والفضول هو وسيلة لإعلان انتمائنا للجنس البشريِّ.
ربما يمكن تلخيص كل الفضول في سؤال ميشيل دي مونتين الشهير: «ماذا أعرف؟» الذي يظهر في كتابه (المقالات)، لاحظ مونتين وهو يتحدث عن الفلاسفة المتشككين، أنهم غير قادرين على التعبير عن الأفكار العامة بأيِّ طريقة في الكلام، لأنهم- حسب قوله- «في حاجة إلى لغة جديدة.» «لغتنا»، كما يقول مونتين: «شُكِّلَتْ مِن الافتراضاتِ المؤكَّدة، التي تتعارض مع تفكيرهم». ثم يضيف: «يمكن فهم هذا التصور بشكل أفضل من خلال سؤال (ماذا أعرف؟)، إنَّ مصدر هذا السؤال هو، بطبيعة الحال، مقولة سقراط الشهيرة (اعرف نفسك!)». ولكن لدى مونتين، ليست تأكيدًا وجوديًا للحاجة إلى معرفة (من نحن)، وإنما هي حالة مستمرة من التساؤل عن المناطق التي تنطلق من خلالها أذهاننا (أو أنها قد انطلقت بالفعل)، والمنطقة المجهولة التالية. ويعتقد مونتين أنَّ الافتراضات المؤكدة للغة تعود إليها وتتحول إلى أسئلة. صداقتي مع مونتين تعود إلى فترة المراهقة، حينها كنت أرى في (مقالاته) نوعًا من السرد الذاتي، ولا أزال أجد في تعليقاته اهتماماتي وتجاربي مترجمةً إلى نثر متألِّق. من خلال تساؤله عن الموضوعات المألوفة (واجبات الصداقة، حدود التعليم، متعة الريف)، واستكشافه للمواضيع الغريبة (طبيعة أكَلة لحوم البشر، وهوية الكائنات الوحشية، واستخدام الإبهام)، وضع مونتين لي خريطة فضولي التي امتدت إلى أزمنة مختلفة وأماكن كثيرة. يعترف بقوله «الكتب مفيدة بالنسبة لي، تَعْلِيمات أقل وتعليم أكثر»... وهذا هي حالتي تمامًا! عند تأمل عادات القراءة لدى مونتين- على سبيل المثال- أجد أنه من الممكن الإجابة عن سؤال «ماذا أعرف؟» باتباع طريقة مونتين نفسها، وهي اقتباس الأفكار من مكتبته (قارَن نفسَه كقارئ، مع نحلة تجمع اللقاح لصنع العسل).
وفقًا لنظرية داروين، فإنَّ الخيال البشريَّ هو أداةٌ للبقاء على قيد الحياة، من أجل معرفة المزيد عن العالم؛ ومن ثمَّ الاستعداد لمواجهة الصعوبات والأخطار. إنَّ العقل يمنح الإنسان القدرة على إعادة بناء الواقع الخارجي في ذهنه، وتصوُّر المواقف التي يمكن أنْ تحدث قبل مواجهتها في الواقع، والإدراك الواعي بالعالم من حولنا، والقدرة على وضع الخرائط العقلية واستكشافها بطرق كثيرة، ومن ثم اختيار أفضلها وأكثرها كفاءةً. ويتفق مونتين مع الرأي القائل: إننا نتخيل من أجل الوجود، وإننا فضوليون من أجل إشباع رغباتنا وخيالنا. الخيال، كنشاط إبداعي أساسيِّ، لا يتطور من خلال النجاحات الروتينية والتفكير البسيط الذي لا يؤدي إلى شيء جديد، بل يتطور بالممارسة، من خلال المحاولة والخطأ وإعادة المحاولات مرارًا وتكرارًا. إنَّ تاريخ الفن والأدب، والفلسفة والعلوم هو محصلة لتلك الإخفاقات النيرة. أو كما قال صمويل بيكيت: «افشَل، حاوِل مجددًا، وافشَل مجددًا... ولكن افشل بصورة أفضل!».
ولكن من أجل أنْ نفشل بصورة أفضل، يجب أنْ نكون قادرين على معرفة وتخيُّل تلك الأخطاء والمحاولات المتضاربة. ويجب أنْ نكون قادرين على رؤية أنَّ هذه الطريق أو ذلك، لا يقودنا إلى الاتجاه المنشود، أو أن كَذَا وكَذَا من الكلمات، أو الألوان، أو الأرقام لا تقارب الصورة الذهنية لدينا. لقد سجَّلْنا بفخر، اللحظات التي ألهمت أرخميدس وجعلته يصرخ «وجدتها!»، ولكننا- مع الأسف- أقل حرصًا على تذكُّر أبعد من تلك اللحظات، مثل الرسام فرانهافر في قصة بلزاك، عندما ينظر إلى تلك اللوحات الرائعة مَجْهُولة المصدر ويقول: «لا شيء، لا شيء!... لن أقدم شيئًا». هنا، في لحظات الانتصار القليلة، ولحظات الهزائم الكثيرة؛ يظهر سؤال خياليٌّ واحد كبير: (لماذا)؟
ألبرتو مانجويل