باتساع نطاق التجارة الدولية وتداخل العلاقات الاقتصادية وتطوير وسائل الحراك العالمي في كافة أوجه النشاطات المختلفة، مع التسريع المذهل الذي انتظم كافة أنواع التجارة، بفعل التطوير الهائل في وسائل الاتصالات، وما تبعها من استعمال لإمكانيات التقنية الإلكترونية المدهشة، كان لا بد من مواكبة وتطوير إجراءات التحكيم التجاري الدولي لهذه المستجدات، حتى يصبح نموذجاً يحقق هدفه في مساعدة كافة الدول على إصلاح وتحديث قوانينها الوطنية المتعلقة بإجراءات التحكيم، ومن ثمّ مراعاة الاحتياجات الخاصة للتحكيم التجاري الدولي. ذلك بتناول جميع مراحل عملية التحكيم، ابتداء من اتفاق التحكيم وتكوين هيئة التحكيم واختصاصها، حتى نطاق تدخّل المحكمة من خلال الاعتراف بقرار التحكيم وإنفاذه.
ويجسّد قانون التحكيم -بصورة عامة- توافقا عالميا في الآراء، بشأن الجوانب الرئيسية لممارسات التحكيم الدولي، بما يجعل أكبر عدد من الدول أن تقبل به من جميع المناطق وبمختلف النظم القانونية أو الاقتصادية والسياسية في العالم؛ حتى تزدهر علاقات الدول فترتقي بتسوية النزاعات التجارية الدولية إلى ما ينأى بالجميع من تطويل أمد النزاع، ومن ثمّ الوصول إلى الحلول المرضية في نهاية المطاف بأقل جهد ممكن، بعيداً عن تعقيدات إجراءات التقاضي العادية التي غالباً ما تكبد الأطراف والأجهزة العدلية الكثير من الجهد وبذل الوقت.
إن (أُونسيترول) وهي هيئة قانونية ذات عضوية عالمية متخصصة في إصلاح القانون التجاري على النطاق العالمي تتمثل مهمتها في متابعة تحديث ومواكبة القواعد المتعلقة بالأعمال التجارية الدولية لمستجدات الظروف المختلفة، والتغيرات التي انتظمت العلاقات الدولية مؤخراً، سواء كانت بين الدول أو أسرع ومستويات معيشة أعلى وإتاحة فرص جديدة من خلال تجارة دولية متسقة مع روح التضامن والتعاون بين الدول. ولتحقيق ذلك، تعمل (أُونسيترول) على إرساء قواعد مواكبة وعادلة متسقة بشأن المعاملات التجارية الدولية، ذلك من خلال صياغة اتفاقيات وقوانين نموذجية وقواعد مقبولة عالميا وايجاد أدلة قانونية وتشريعية وتوصيات ذات قيمة عملية كبيرة من أجل تسهيل إجراءات التحكيم، ومن أجل ذلك تقوم أمانة لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (أُونسيترول) بتوفير معلومات محدّثة عن السوابق القضائية وسن قوانين تجارية موحدة مع تقديم مساعدات تقنية في مشاريع إصلاح القوانين التي تقدم في هذا الشأن، ومن أجل ذلك فهي تقوم ببث حلقات دراسية إقليمية ووطنية في مجال القوانين التجارية الموحدة، وهي تسعى لتوحيد الوعي العام عالمياً؛ من أجل توحيد فهم وتفسير قواعد ومواد القوانين التجارية الدولية، وتحديث الشروط المتعلقة بشكل اتفاق التحكيم؛ لكي يوافق ممارسات العقود الدولية ذات الصلة على نحو أفضل، بما يساعد على تحقيق الهدف من التحكيم في النزاعات التجارية الدولية، ويؤدي الى استقرار المعاملات التجارية الدولية بتوافق ممارسات العقود الدولية على نحو مميز، وإرساء نظام قانوني أشمل للتعامل مع التدابير المؤقتة التي تتخذ دعما للتحكيم.
ومنذ فترة ليست بالقصيرة أصبحت هناك قوانين وقواعد في شكل صيغ معيارية مقبولة للجميع بين دفتي القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي، والكثير من الدول أخذت تشريعاتها الوطنية تنحو نحو شكل ونماذج الصيغ التي سنتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي. ولقد سبق وأن اتخذت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرارها من قبل، بناءً على تقرير اللجنة السادسة قبول المواد المنقحة من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي وضعته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي، والتوصية المتعلقة بتفسير بعض مواد القانون واتفاقية الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية، وبذلك فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة، تسلم بقيمة التحكيم كوسيلة لتسوية النزاعات التي تنشب في سياق العلاقات التجارية الدولية المختلفة، وبضرورة أن تكون أحكام القانون النموذجي المتعلقة بشكل اتفاق التحكيم والتدابير المؤقتة متوافقة مع الممارسات الحالية في التجارة الدولية مع وسائل التعاقد، ما يعزز إلى إعمال القانون النموذجي ويساعد على تعميمه على كل الدول والمؤسسات والأفراد الذين لهم وجود في مجال النشاط التجاري الدولي. ولقد ظلت مواد القانون النموذجي المتعلقة بشكل اتفاق التحكيم على وجه الخصوص ـ ظلت ـ موضوع تداول ومشاورات مستفيضة مع حكومات الدول والأوساط المهتمة بهذا الجانب، ما أسهم الى حد كبير في إرساء إطار قانوني متناسق يتيح تسوية النزاعات التجارية الدولية بإنصاف وكفاءة، وبالتالي ينال رضاء الجميع، ذلك ان نجاح أي تشريع اياً كان دولياً او وطنياً يعتمد في المقام الأول على رضا المعنيين به من الدول والمؤسسات والأفراد ذوي الصلة. ولقد أصبحت الضرورة ملحة في وقتنا هذا لمتابعة واستمرار تحديث قواعد ومبادئ القوانين ذات الصلة بما يتسق فهمها وصحيح التفسير الذي يؤدي الى التطبيق العملي المفيد بما يتفق ويتوافق مع مبادئ اتفاقية الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية، وبالتالي تحقيق مبدأ استقرار المعاملات التجارية الدولية وما يتبع ذلك من استقرار في كافة أوجه الحياة.
* محام دولي ومستشار قانوني