DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

في مواجهة معوقات الانتقال السياسي باليمن

في مواجهة معوقات الانتقال السياسي باليمن

في مواجهة معوقات الانتقال السياسي باليمن
القراءة الدقيقة للواقع السياسي باليمن، تستدعي الحديث عن التاريخ. فهذا البلد العريق، الذي تمتد حضارته لآلاف السنين، ظل مثقلا بتاريخه وأزماته. وفيه تواصلت أشكال الحياة الاجتماعية التي سادت بالقرون الوسطى من دون تغيير. وساد فيها نظام اقطاعي، مدعوم بقوة القبيلة احتكر امتلاك الأرض. لقد بقي هذا البلد الغني بتاريخه وثرواته الزراعية والسمكية، خارج العصر وفي عزلة عنه. حين قام الانقلاب الجمهوري، تكشف أن معظم من تسلموا المناصب السياسية فيه، هم أبناء شيوخ القبائل التي عارضت الإمام، أو المقربين منهم، أو من أفراد تحققت مصاهرة وصلة قرابة بينهم وبين هؤلاء الشيوخ. وبعض هؤلاء هم ممن قدر لهم السفر للخارج والالتحاق بالجامعات والكليات الحربية، في القاهرة وبغداد ودمشق، وباريس ولندن، في بعثات دراسية، على نفقة شيوخ قبائل حاشد وبني الأحمر وبكيل، وغيرهم. لم يكن النظام الذي أطاح بأسرة حميد الدين، معزولا عن البيئة اليمنية. ففكرة الدولة الحديثة لم تترسخ في هذا البلد؛ بسبب طغيان هيمنة القبيلة وشبكة العلاقات القديمة. وفي ظل غياب برامج النهوض الاجتماعي والسياسي بالبلاد، استمرت الصراعات، التي عكست موازين القوى القبلية، مجسدة انتقالا سريعا، وأحيانا دمويا في موقع رئيس الدولة. حيث شهدت اليمن، في أقل من ثلاثة عقود تناوب عشرة رؤساء على السلطة، بعضهم رحل عنها، بطريقة مأساوية ودموية. العلاقات السياسية، بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي، بقيت طيلة فترة النظام الإمامي وهيمنة البريطانيين على الجنوب، محكومة بقانون الوحدة والتنافر. ورغم ذلك، كان أبناء الجنوب يأتون للشمال دون وثائق سفر، ويتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها اليمنيون. وبعد الإطاحة بحكم الأئمة في الشمال واستقلال الجنوب عن البريطانيين، استمر الحال على ما هو عليه ولم تتغير الأوضاع كثيرا. قامت الوحدة اليمنية، بعد أزمة سياسية حادة في الشمال، وتصفيات بين أقطاب الحزب الحاكم في الجنوب. وباشتداد حدة الأزمات الاقتصادية في الجنوب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، الحليف الرئيسي لليمن الجنوبي، وتوقف المساعدات المالية والعسكرية التي اعتاد الجنوب تلقيها من السوفييت، توصل النظامان الحاكمان في الشطرين، إلى أنه لا مخرج لهما من أزمتهما إلا بتحقيق الوحدة بينهما. وقد تحقق ذلك عام 1990. لكن مهرجان الوحدة لم يستمر طويلا. وتوالت الأزمات بين شريكي الوحدة، في الفترة الانتقالية التي بدأت بتوقيع اتفاقية الوحدة. وخلالها تم تقاسم السلطة بين المؤتمر الشعبي العام بزعامة الرئيس صالح، الحاكم في الشطر الشمالي قبل الوحدة، والحزب الاشتراكي اليمني بزعامة نائب الرئيس علي سالم البيض، الذي حكم الشطر الجنوبي. وكان من المفترض أن ينجز فيها تحقيق الاندماج بين الشطرين، بما في ذلك دمج جيشيهما في جيش وطني واحد. إلا أن ذلك لم يكتب له التحقق، فقد تصاعدت الأزمة بين الشريكين، واتهم الرئيس صالح، بتهميش شريكه في السلطة. وبذلت مساع لتضييق شقة الخلاف بين الطرفين، كان من نتيجتها تشكيل لجنة للحوار الوطني، في نوفمبر 1993، أنجزت وثيقة العهد التي حددت أسس بناء الدولة، ووضع دستور جديد. لكن الأزمة استمرت، مؤدية إلى إعلان الانفصال، واشتعال الحرب التي انتهت بانتصار فريق صالح وحلفائه. لم يحل انتصار صالح في الحرب على الجنوب وبقاء اليمن موحدا دون استمرار الأزمة. فقد تشكل مثلث أزمة جديد، يهدد وحدة اليمن، مثل الحراك الجنوبي ضلعه الأول، ووجود القاعدة بمحافظة أبين ضلعه الثاني، وتمرد الحوثيين بجبل صعدة ضلعه الأخير. يضاف إلى ذلك أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. جذور أزمة الوحدة تكمن في فوارق بين المجتمعين، تكونت خلال أكثر من قرن. وكان الحفاظ على الوحدة وصيانتها يقتضي معالجة تلك الفوارق، وتحقيق الاندماج، بشكل تدرجي. فاستمرار الاحتلال البريطاني للجنوب لحقب طويلة أدى لتضعضع الكيانات القبلية، بالمقاربة مع نظيراتها بالشمال. كانت سياسات بريطانيا في الجنوب، بالمقارنة مع سياسات حكم الأئمة في الشمال، تبدو أكثر تسامحا حين يتعلق الأمر بحرية الرأي. أما نظام الأئمة بالشمال، فأبقى اليمن في ظلام كثيف، ممارسا سطوته، في قمع كل تطلع لنقل اليمن نحو عالم معاصر. وكان لذلك تأثيراته على تشكيلات المعارضة بالشطرين. فبينما قادت المعارضة بالجنوب معركة الاستقلال، فإنها بقيت بشكل قبلي في الشمال. في الشطر الجنوبي، تحقق الاستقلال، وتسلمت الجبهة القومية السلطة. وهيمنت الدولة على الفعاليات الاقتصادية. ومع كل الصراعات والمشاكل، التي واجهت الشطر الجنوبي، تحققت "دولة رفاه" بالمعنى المجازي. تعهدت بتوفير التعليم والعلاج المجانيين، والسكن والعمل والغذاء. في ذات الوقت، قضت عمليات التأميم المستمرة، على إمكانية بروز طبقة متوسطة في البلاد. وكانت البقية الباقية من الإقطاع قد تم دحرها. حين تحققت الوحدة بين شطري اليمن، لم يكن بالجنوب سوى الدولة، وعموم الناس. ولم يكن هناك هرم اقتصادي. فلم يعد موجودا أي من الطبقات الاجتماعية المألوف وجودها بالدول الأخرى، سوى الأجهزة البيروقراطية الحاكمة والقاعدة العريضة من الشعب. في اليمن الشمالي، تعزز دور القطاع الخاص، بعد سقوط أسرة حميد الدين، وبقي الإقطاع نشيطا يمارس دوره السابق، كما بقي للقبيلة ثقلها المادي والمعنوي، وكان حضورها السياسي قويا جدا، يلمس بشكل واضح في المؤتمر الشعبي وحزب الإصلاح، وبقية الحركات السياسية. والنتيجة أن الوحدة بين الشطرين، تمت بين بلدين، بنظامين اقتصاديين مختلفين: أحدهما يقوم على هرم، قاعدته جموع الفقراء، وفي القلب منه تقف البيروقراطية والطبقة المتوسطة من تجار وضباط كبار وملاك صغار، وفي قمته يقف شيوخ القبائل، وبقايا الإقطاع، وبناء السلطة الفوقي. أما في الشطر الآخر، فلا يوجد هرم على الإطلاق، وإنما عناصر تستمد قوتها من كونها في السلطة، وتعتمد صيغة الاقتصاد "الموجه" "الريعي"، حيث لا تكون الثروة نتاجا لحراك ذاتي، رغم أن السلطة تهيمن بشكل يكاد يكون مطلقا على القطاع العام، بل تعتمد على المساعدات والقروض، وتقدمها للشعب في صيغة خدمات مجانية. لقد شهدت القبيلة في الجنوب تضعضعها الأول أثناء هيمنة البريطانيين، بسبب القوانين التي سنها الاحتلال. وتضعضعت مرة أخرى، حين قاد الكفاح الوطني، عناصر شابة، بتشكيلات مدنية، غير قبلية. إن تمكن هؤلاء الشباب من تحقيق الاستقلال يعني تراجع دور الوجاهات القبلية، لصالح القوى الجديدة التي تصدرت قيادة الكفاح. ومع تضعضع المرتكزات المادية للبنيان القبلي، أصبح حضوره معنويا فقط، حتى وإن بقي محتفظا لبعض الوقت، بقوته الاقتصادية. وتضعضعت مرة ثالثة، بعد الاستقلال حين قام نظام اقتصادي اعتمد على سيطرة الدولة على كافة الفعاليات الاقتصادية، وشكل القطاع العام العمود الفقري للاقتصاد. وأصبحت البلاد، دون هرم اقتصادي، حيث لا طبقة متوسطة ولا إقطاع. ولم يعد للقبيلة، سوى الحضور الاعتباري، المرتبط بقوة النسب وصلات القربى. حين حدثت الوحدة، وجرى الانتقال بالاقتصاد في الشطر الجنوبي، إلى اقتصاد السوق، وبدأ تفكيك القطاع العام لم يتم ذلك بشكل منظم، يحقق التكافؤ بين شطري اليمن، ولم يؤد إلى تشكيل هرم بالجنوب بأي شكل من الأشكال. لقد نظر أقرباء رئيس الدولة في الشمال ومعاونوه إلى الجنوب كغنيمة انقضوا عليها. ولم يمر الشطر الجنوبي بمرحلة تأهيل للانتقال من النظام الاقتصادي القديم إلى الشكل الجديد. وتحول الجنوب برمته إلى أطراف. ولم يكن تحقيق ذلك ممكنا، في بلاد تنوء بشطريها الشمالي والجنوبي بقوافل العاطلين عن العمل، وترزح بأسرها تحت ثقل مشاكل اقتصادية مستعصية، إضافة إلى استشراء المحسوبية والفساد، وضعف المراقبة والمساءلة، وجميعها تجعل البلاد عاجزة عن تحقيق التنمية والالتحاق بركب التطور والتقدم. وحين تتضاعف المشاكل، الاقتصادية والاجتماعية، وتعجز الدولة عن إيجاد معالجات جدية لأزماتها، تضعف هيبة الدولة، ويتطاول عليها المحرومون والمهمشون والجياع. كان طبيعيا أن تتفجر الأزمة في الجنوب، بعد أن أصبحت وحدة الشطرين عبئا على مصالح الناس وقوتهم وحقهم في الحياة، بدلا من أن تكون عامل إسناد وتعضيد للمشروع الوطني اليمني. وكان طبيعيا أيضا، أن تتفاعل الأطراف المهمشة والمحرومة في الشطر الشمالي من اليمن مع ما يجري من حراك في الجنوب. لم يكن ما حدث في اليمن عام 2011 شيئا مفاجئا. فالأزمات السياسية التي مر بها اليمن، لعدة عقود، وتفاقمها بعد إعلان الوحدة، والتغيرات المتتالية في هرم السلطة، واستفحال واقع الأزمة في الجنوب، وتخندق القاعدة في محافظة أبين، والتمرد الحوثي في صعدة، أوحت جميعا، بأن اليمن يقف فوق فوهة بركان، وأن عملية اشتعال هذا البركان هي مسألة وقت. حين اندلعت الحركة الاحتجاجية باليمن، تواجد في الشطر الشمالي حزبان رئيسيان: المؤتمر الشعبي العام، وأسسه الرئيس صالح، وأصبح بحكم قيادته له هو الحزب الحاكم. والتجمع اليمني للإصلاح، الذي يقوده الشيخ حميد بن عبدالله بن حسين الأحمر. وهو عبارة عن تحالف قبيلة بني الأحمر مع جماعة الإخوان المسلمين، وقد انضم الأخير للقاء المشترك، وساهم في ذلك الحراك. وكانت هذه الأحزاب، قد توصلت إلى وثيقة إنقاذ في سبتمبر 2009، شخصت الأزمة وانتهت باقتراح معالجات لقضيتي الجنوب وصعدة، وضع أسس العقد الاجتماعي وتعديلات الدستور، وآليات تنفيذ ذلك، استنادا إلى حوار وطني شامل لا يستثني أحدا، ويكون المؤتمر الشعبي العام طرفا أساسيا فيه. وحين لم يستجب النظام، لبرنامج الإصلاح الوطني الشامل المقترح، أقرت المعارضة برنامجا تصعيديا تداخل مع ما عرف لاحقا بـ"الربيع العربي". ولا شك في أن الدور الذي لعبته دول مجلس التعاون الخليجي، وفي المقدمة القيادة السعودية، في استقرار اليمن، وتوصل مختلف الفرقاء السياسيين، إلى اتفاقية، تضمن مشاركة الجميع، وعدم تهميش أي طرف من مكونات النسيج السياسي اليمني؛ كان يمكن أن تسهم بشكل مباشر في تعزيز الاستقرار، ونقل اليمن إلى الدولة المدنية.. إن هذا الانتقال سيمكن الدولة اليمنية من تجاوز أزماتها، ويجعلها قادرة أن تتعامل بفعالية مع ما أطلقنا عليه مجازا مثلث الأزمة. فالأزمة كما جرى تشخيصها، هي نتاج لأزمة ونهج حكم الرئيس صالح، الذي غيبت فيه الشفافية، وتغولت فيه السلطة، ومارست الاستبداد، وهدرت مصالح الناس، وجرى السطو على الممتلكات. استبدلت في وظائف الدولة، المحسوبيات، بدلا عن الكفاءات، والوجاهات بدلا عن القدرة على الإدارة. فكان من الطبيعي، أن تعم حالة الاحتقان، لدى غالبية ضحايا هذه الممارسات، وبشكل خاص في المناطق التي حرمت من التنمية، وهو ذاته الذي خلق مناخات ملائمة للقوى الانفصالية التي تعمل تحت مسمى الحراك الجنوبي؛ لفصله عن الشمال. ولو تحققت مشاريع التفتيت في صعدة وأبين والجنوب، لا سمح الله، لأصبح القطر اليمني الشقيق في ذمة التاريخ. إن الانتقال للدولة المدنية، يعني تراجع الأمراض التي عصفت بالمجتمع خلال العقود الأخيرة. ويعني أيضا قيام دولة تعتمد المساواة، وتضيق الفجوة بين الغني والفقر. إن تعميم مفهوم المواطنة، هو الذي ينقل معالجات الأزمة، من اختزالها على الجانب الأمني والعسكري، إلى معالجة أخرى، تعتمد الحوار والتفاعل بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي اليمني، وذلك ما يضع اللبنات الأساسية المتينة على طريق تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة. في أجواء ضعف الدولة وعجزها عن معالجة المشاكل المستعصية، تكون فسحة للقوى الإقليمية، للتدخل في الشؤون الداخلية لليمن، مستغلة في ذلك الصلات الثقافية، والانتماءات المذهبية. إن مثلث الأزمة في اليمن الذي تحدثنا عنه، هو أفضل وسيلة لتحقيق الاختراقات الخارجية. لقد اتجهت إيران بقوة لليمن وللقرن الأفريقي. والهدف هو ضمان السيطرة على مضيق باب المندب. إن تنشيط بؤر التوتر في اليمن، من وجهة نظر القيادة الإيرانية، سيمكنها من إيجاد موضع قدم لها على ضفتي البحر الأحمر، قريبا من باب المندب. إن ذلك سيحقق لإيران، حين يضاف إليه حضورها الاستراتيجي، في عنق مضيق هرمز، قوة ضغط على أمن دول الخليج وتهديدا لاستقراره ويسهم في فرض واقع ابتزاز سياسي على المملكة وبقية دول مجلس التعاون الخليجي. إن انفلات الأمور في اليمن، جعل من البلاد مطمعا لتدخلات إيران. كما أن ضعف الدولة المركزية سينتج عنه تمكين منظمة القاعدة، التي عانت المنطقة بأسرها جراء عملياتها التخريبية. عاصفة الحزم أساسها إعادة الاعتبار للمصالحة الوطنية وللمبادرة السعودية التي وافقت عليها كل المكونات السياسية اليمينة، وإعادة هيبة الدولة المركزية، وتحقيق الأمن والاستقرار والرفاه للشعب اليمني الشقيق، وحماية أمننا الوطني ومياهنا الإقليمية، وعمقنا الإستراتيجي في الخليج والجزيرة العربية.