في القرن السابع الميلادي انشغل مواطنو الإمبراطورية البيزنطية بالجدل اللاهوتي، فكانت كل نقاشاتهم في مجلس الشيوخ وبين الرهبان والعامة تتمحور حول أمور فقهية لاهوتية، لا طائل منها، مثل: جنس الملائكة هل هم ذكور أو إناث، وكيف هو حجم إبليس كبير أو صغير، ومن وجد قبل الدجاجة أم البيضة.. كل تلك النقاشات العقيمة كانوا بها يكفرون بعضهم البعض، في الوقت الذي كانت فيه قذائف جيوش السلطان العثماني محمد الفاتح تدك أسوار مدينتهم القسطنطينية.. وكان الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر يحاول تهدئتهم وتوحيدهم؛ للتصدي لاعدائهم.. ويقال إن الإمبراطور بكى وهو يرجو كل الأطراف الكف عن نقاشاتهم لكن دون جدوى.. فتمكن محمد الفاتح من الاستيلاء على مدينتهم.. فكانت اسطنبول.. وانتهت بيزنطة والسبب هو انشغال أهلها بذلك الجدل العقيم والنقاش الذي لا يقتنع به أحد، ولا يرضي أي أحد، ولا يكون فيه رأي يرى، وينتهي دائما كما بدأ دون اقناع ولا اقتناع، ولتستمر كل الأطراف في اختلاف وخلاف..
ولأن العبرة والعظة توجد في طيات التاريخ، يتعلم ويستفيد منها العقلاء الباحثون عن الحقيقة، والحكماء الطامحون لتحقيق الخير والعطاء، ولكن للأسف! وبعد مرور مئات السنين إلا أنه يتواجد في واقعنا اليوم وبيننا من يشبهون أهل بيزنطة في الانشغال بالجدل العقيم الذي لم يؤد إلا إلى الزيادة في الخلاف والاختلاف، وخاصة أولئك الذين يحملون النفس الطائفي ويعملون على تشتيت التوازن الفكري بإذكاء روح الفتنة المذهبية..
لو تساءلنا على مدى كل هذه السنين التي تتجدد فيها كل يوم اختلافاتنا الفكرية والطائفية.. ما هي النتائج التي تحققت على أرض الواقع؟!
المحزن المفجع أن كل ما تحقق هو ذلك الشرخ الذي يزداد اتساعا باندفاع بعض من يؤججون الفتنة، ويزيدون في الشحن العاطفي لكل فريق بين مكونات مجتمعنا، الذي لا يريدون له أن يتعايش بسلام واحترام متبادل..
اليوم.. لم نعد في حاجة إلى الجدل البيزنطي الذي يحترفه البعض من بني جلدتنا؛ لأنهم أخذوا مكان إبليس وضخموا أنفسهم فكانوا هم لنا الأعداء.
عقيدتنا السمحة وديننا الحنيف وسنة رسولنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.. في كل ذلك من الجلاء والنقاء والوضوح ما يقره العقل ويؤكده المنطق بما لا يحتاج إلى تأويل، ولا يمكن لمن في قلوبهم مرض أن يغيروه أو يشوهوه؛ لأن الفطرة النقية الطاهرة هي أساس التكوين والمنطق.. والدين الصحيح سهل سمح لا يضمر عداء ولا يؤسس لخصومة.
عشاق الجدل البيزنطي في زماننا ممن يراهنون على فكرهم الضبابي هم في أمس الحاجة إلى إيمان كإيمان العجائز، ولكن أنى لهم ذلك وهم لا يعرفون التصالح مع أنفسهم قبل غيرهم، ويحكمون على ضمائر الخلق، ويشككون في النوايا، ويتوقعون السوء.. يخوفون ولا يرغبون.. يجادلون في الحقائق ويختلفون لأجل الخلاف.. يجهلون قيمة الحياة ولا يفقهون جوهر الدين..
قال رسولنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ».