لم تعد جملة «لا يساورني شك» تصلح لهذا الزمن. كل شيء مشكوك فيه. وكل مشكوك فيه متاح ومباح في السياسة والاقتصاد، في الشارع والبيت، في الصداقة والحب أيضاً الزمن السريع فرم الوقت والجهد والبعد. لكأننا في قطار سريع لا يتوقف عند محطة ولا محطة أخيرة في الأفق. ربما هذا هو زمن الانهيارات، ربما فقدت الأرض مداراتها وأصيبت بالجنون فيما أصيب الإنسان بالغثيان الذي يسبق لحظة الإعدام. لكأني به يردد ما قاله أحدهم: أوقفوا الأرض أريد أن أنزل!
لكن أين ينزل الإنسان العربي؟ دمار هنا، قتل هناك، حرائق تشتعل وحدائق صارت مقابر، فردية وجماعية. لا وقت لطقوس الدفن ولا لمراسم العزاء.
الزمن سريع لكل ما هو سريع، للرصاص المبصر والأعمى، للبراميل المحشوة بالموت، للحواجز الملغمة بالحقد. مرور على الهوية الطائفية، إقامة بين الجبرية والخيرية ولا شيء اختياري حتى في أي أرض تموت.
الموت هو الشاهد الوحيد على الحياة. الحياة المولودة من رحم العذابات في غياهب المعتقلات، او في تغييب الارادات وقمع الحريات. الضغط يولد الانفجار وها هي الانفجارات تتوالى، ولا رادّ لها إلا الإرادة الحقيقية الواعية لهذه الكوميديا السوداء التي تجري على الساحة العربية. من ينظر إلى المشهد العربي وما يجري في المنطقة من نزاعات ومواجهات مسلحة بينية داخل الأقطار العربية، وكيفية تعامل القوى العالمية والإقليمية مع الأحداث الجارية، من حيث التدخل السياسي والعسكري، أو من خلال النظر في سياسات التسليح وآليات الدعم والاسناد المختلفة، ومراقبة التصريحات الصادرة عن ممثلي القوى الفاعلة والمؤثرة، يصل المراقب إلى حقيقة مؤلمة وخطيرة حول فلسفة إدارة الصراع في المنطقة؛ التي تقوم بجوهرها على إضعاف جميع الأطراف وإطالة أمد الصراع، وعدم السماح لأي طرف بتحقيق نصر حاسم. تظهر الحقيقة جلية من خلال رصد بدايات الأحداث في سوريا، وكيف تعامل معها النظام الحاكم، وكيف تحول مسار المواجهة إلى صراع مسلّح، والوقوف بعد ذلك على الكر والفر بين قوات النظام والمعارضة، وكيف تدخلت المليشيات العابرة للحدود، لنصرة النظام، ونشوء داعش بعد ذلك لتعقد المشهد وتحول دون فاعلية العنصر الشعبي في المواجهة القائمة، وتشرعن الحرب ضد المعارضة، ثم افتعال معركة كوباني ودخول الأكراد على الخط، ثم تطور المشهد عبر تدخل طيران التحالف من خلال سياسة «لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم»، وهكذا تمضي الأشهر والسنوات والمشهد يتراوح بين تقدم طرف وتقهقر آخر، ثم ينعكس الدور بتقهقر المتقدم وتقدم المتأخر بطريقة مكرورة ومملة.
وما يحدث في سوريا يحدث أيضا في العراق. يتم تسليم الموصل لداعش عبر أوامر للجيش من حكومة نوري المالكي بالانسحاب، يتم تشكيل لجنة تحقيق مع كبار الضباط، تموت اللجنة و.. يحيا الضباط! تتمدد داعش في سوريا والعراق، تحتل الانبار، تدمر الآثار والإنسان وها هي تصك عملة «داعش» الذهبية وتبتدع طرقاً اكثر وحشية للاعدام. السيناريو نفسه يتكرر تقريباً في اليمن، فعندما قامت الثورة وآلت الأمور إلى توافق معظم الأطراف اليمنية على المبادرة الخليجية وعزل الرئيس، تعود الكرة من جديد عبر تحالف إيراني مع الرئيس المخلوع ومجموعة الحوثيين لتعيد الأمور إلى مرحلة الصفر، ثم تنشأ عاصفة الحزم لتضع حداً لتقدم التحالف الثلاثي الجديد.
أيضا يتكرر السيناريو نفسه في ليبيا، فبعد أن سقط النظام، وآلت الأمور إلى الاستقرار عبر إجراء انتخابات عامة لمرحلة انتقالية تهيئ لمرحلة الاستقرار، وإذ بنا نشاهد تدخلا من بعض الأطراف بالانقضاض على الموقف الليبي الموّحد وإعادة الشرخ إليه مرّة أخرى، لتشعل حرباً جديدة بين أطراف ليبية متصارعة؛ بين طرابلس وبني غازي وبرقة ومصراته، وتدخل الطائرات الغازية مرة أخرى من أجل إضعاف طرف على حساب طرف آخر، وتتحول المواجهة الى صراع دموي طويل الأمد، ثم يتعقد المشهد بظهور «داعش» مرة أخرى في بعض المناطق؛ من أجل إضعاف الأطراف جميعاً والدخول إلى الدوامة القاتلة. في الدوامة لا شيء ثابت. الكل يتحرك ويدور حول نفسه كما في حلقة زار يرعاها الشيطان. إنها مؤامرة التقسيم ولعبة التفكيك للأمة العربية. قتل كيانات عربية موحدة وإحياء طائفيات وعرقيات كانت قد ذابت في الامة وبعضها صارت عروبية اكثر من بعض العرب، وإلا ما معنى ان يتم ايقاظ مشروع الدولة الدرزية في هذا الوقت بالذات، ويتم نقل المعركة الى السويداء. أليست مفارقة ان مكان تجمع الدروز يطلق عليه اسم «جبل العرب» ومنه انطلقت الثورة السورية ضد المستعمر الفرنسي بقيادة سلطان باشا الأطرش؟! مؤسف أن تستمر المأساة العربية. محزن أن «اسرائيل» وحدها هي التي تمد رجليها في ماء بارد، فيما الدم العربي يغلي في شوارع فقدت رشدها، ليرسم خطوط التقسيم الجديد للأمة.