نزعات التعصب والتطرف والتوحش التي اشتدت وتعاظمت واتسعت في المجتمعات العربية والإسلامية، كشفت وعبرت عن حالة من الخلل الديني في طريقة فهم الدين والتدين، وفي طريقة التعامل مع النص الشرعي فهما وتنزيلا، وبتأثير هذا الخلل وردا عليه ومجابهة له تعالت الأصوات الداعية إلى ضرورة التجديد الديني، وإصلاح الخطاب الديني.
وبحسب الصورة المخيفة والمرعبة التي ظهرت عليها هذه النزعات، فإنها أبانت خللا دينيا ليس من نمط الخلل السهل والبسيط الذي يحدث ويمكن التغافل عنه وعدم الاكتراث به، وليس من نمط الخلل العادي والعابر الذي يحدث ولا يجري التنبه له ولا يستدعي التوقف عنده، وليس كذلك من نمط الخلل الخفي والضامر الذي يحدث ويصعب تشخيصه ويلتبس التعرف عليه، وإنما هو من نمط الخلل الديني الكبير والخطير الذي لا يصح أبدا التهاون معه، والانصراف عنه.
ومن شدة خطورة هذه النزعات، أنها تسببت في تقديم أسوأ صورة مشوهة ومخيفة عن الدين الإسلامي وعن الخطاب الديني الإسلامي، اللذين ظهرا أمام العالم وكأنهما دين وخطاب ينزعان نحو العنف والقسوة والرغبة في القتل، ولا يعرفان الرحمة والتسامح والتعايش، وأنهما أقرب إلى التوحش من الحضارة، وإلى البربرية من المدنية، وإلى العصبية من التعقل، وإلى السفه من الرشد.
لهذا فإن هذه النزعات قد وضعتنا أمام مأزق صعب في علاقتنا بالعالم مجتمعات وثقافات وحضارات، وغيرت من نظرة العالم إلينا، وانحدرت صورتنا إلى الحضيض مع الأعمال الإجرامية البشعة التي قامت وتقوم بها جماعات مثل داعش وغيرها.
وحصل هذا التراجع والانحدار بعد أن قطعنا خطوات في التواصل مع العالم، من خلال عناوين: حوار الثقافات، وتعارف الحضارات، والتواصل الإنساني، والانفتاح الكوني، والبحث عن المستقبل المشترك، وغيرها من العناوين التي جعلتنا نرى أنفسنا، ويرانا العالم بوصفنا جزءا متصلا ومتفاعلا مع العالم، وإذا بهذه العناوين تتراجع إلى الوراء، وتتقدم عليها عناوين مكافحة التعصب والتطرف والإرهاب، الآفات التي تتركز بصورة رئيسة في مناطقنا العربية والإسلامية.
والتجديد الديني الذي يطرح في هذا السياق له مهمة مزدوجة، مهمة تتصل بالداخل وترتبط بالعلاقة مع ذاتنا وخطابنا، ومهمة تتصل بالخارج وترتبط بعلاقتنا مع العالم، وتحديدا بصورتنا أمام العالم. وبين هاتين المهمتين هناك علاقة تفاعلية وتراتبية، فكلما تقدمنا وأحرزنا نجاحا في المهمة الأولى التي تتصل بالداخل، تقدمنا وأحرزنا نجاحا في المهمة الثانية التي تتصل بالخارج.
ومن الناحية التراتبية، فإن المهمة الثانية مترتبة على المهمة الأولى نجاحا أو فشلا، تقدما أو تراجعا، صعودا أو هبوطا. فصورتنا أمام العالم هي انعكاس طبيعي وموضوعي لصورتنا التي نكونها نحن عن أنفسنا، بإرادتنا أو دون إرادتنا، برغبتنا أو دون رغبتنا. فالصورة تلازم الواقع ولا تنفصل عنه، ومن الثابت أن الصورة الحسنة تكون ناشئة من الواقع الحسن، والصورة السيئة تكون ناشئة من الواقع السيئ.
وعلى هذا الأساس، فالأمر يتطلب العناية بالواقع لتحسين الصورة، وليس الانشغال بتحسين الصورة وإهمال الواقع. فالصورة لا يمكن أن تغطي على الواقع وتحجب حقيقته، والواقع من جهته لا يمكن أن يخادع ويقدم صورة لا تتطابق معه، ولا يستطيع الواقع إلا أن يكشف عن حقيقته كما هي.
بمعنى أنه لا يكفي على الإطلاق أن نذهب ونتواصل مع الأمريكيين والأوروبيين واليابانيين والصينيين والروس والهنود، ومن ينتمون إلى الحضارات الأخرى، وننقل لهم صورة لا يصدقها الواقع الذي يعرفونه جيدا، والمنكشف بطبعه وطبيعته لهم ولغيرهم.
فالمهمة الأولى إذا هي الأساس، وهذه المهمة لها مساران، المسار الأول: ويتصل بالمدى القريب والعاجل وله طابع الإصلاح، والمسار الثاني: ويتصل بالمدى التالي وله طابع التجديد.
والمفارقة بين الإصلاح والتجديد، أن الإصلاح يكون ناظرا إلى ما هو كائن ويتجه إلى مكامن الخلل والفساد والاعوجاج، والتجديد يكون ناظرا إلى ما ينبغي أن يكون ويتجه إلى البديل والبحث عن البدائل غير الحاصلة التي تغير الواقع وصورته.
ومكمن الخلل الرئيس الذي ينبغي أن يتجه إليه الإصلاح، يتحدد في جملة من المفاهيم الملتبسة التي أفرزت تلك النزعات المخيفة والمرعبة، وفي مقدمة هذه المفاهيم: الغلو، التكفير، الجهاد، الاستشهاد، الولاء والبراء، دار الإسلام ودار الحرب، الاحتساب، المخالف، الهجرة، إلى جانب مفاهيم أخرى، الأمر الذي يعني أننا أمام معركة مفاهيم، لكن السؤال: هل الإصلاح الديني أو التجديد الديني أمر ممكن؟