لم تعد حفلات تحطيم الآلات الموسيقية مجرد استعراضات وقتية لإعلان توبة أحد الضالين عن طريق الحق. بل صارت جزءاً من برنامج عروض الصيف السياحية. حيث تنتشر في دروب الإنترنت مشاهد فلمية وصور فوتوغرافية لحفلات تحطيم الآلات الموسيقية، فيما عُرف بحملة تكسير المعازف. وهو إجراء تعقيمي صاخب أشبه ما يكون بطقس حرق الكتب وإغراقها. فمنذ أن نُشرت صورة أحد الدعاة وهو يدوس بقدميه على آلة العود ويسحقها، توالت صور تمزيق أوتار الغيتارات وتهشيم مفاتيح الأورغات ودهس صدور الكمنجات. حيث يبدو المنزع لكرنفال إتلاف الأدوات الموسيقية بهذه العلنية والاستعراضية على صلة بنيات دينية أو سياسية أو أخلاقية.
ويبدو أن هذا الفصيل الاجتماعي الكاره للموسيقى والفن عموماً يريد من خلال تلك المنظومة من الصور توجيه رسائل قوية لا تستهدف تدمير ما يسمونه بالمعازف وحسب، بل تشكيل تيار مضاد لكل ما له علاقة بالفن. واجتثاث فكرة الفرح من جذورها، حتى وإن كانت تلك الآلات التي تعرضت للتحطيم مجرد أدوات للتسرية عن النفوس المتعبة لفئة محرومة من أبسط وسائل الترفيه. فالحملة رمزية في المقام الأول. وقد أُريد بها التدليل على معاداة الثقافة الموسيقية ومتعلقاتها.
يتأكد ذلك المقصد المبرمج لإحداث صدمة اجتماعية من خلال علنية الطقس. إذ يفترض أن يكون فعل التوبة فردياً في المقام الأول، ويحدث على المستوى الداخلي الروحي للنفس. بمعنى ألاّ يدخل في شبهة الاستعراض الجماهيري. فهناك فرق في المقصد ما بين إتلاف آلة موسيقية بشكل فردي نتيجة صحوة روحية شخصية وبين تحطيمها على مرأى من الحشود. إلا أن الملاحظ هو توظيف دموع التائبين واستخدام صورهم وهم يسجدون شكراً لله على إنقاذهم من ضلال الموسيقى في تعزيز حملة تنظيف المجتمع من المعازف.
كل ذلك التصعيد عبر وسائل الميديا أدى إلى تنامي حفلات تكسير المعازف. حيث خرجت من المساجد إلى المدارس ولم تتوقف عند المخيمات الدعوية، حتى صار للحملة نجومها المتخصصون في تهييج الجماهير وتليين قلوبهم، بل إبكائهم بشكل مسرحي، كما يتضح من الفيديوهات والصور، لدرجة الإعلان عن توبة فرقة موسيقية كاملة. وتأدية الطقس في الدول المجاورة. فيما يبدو دورة مقلوبة للتاريخ فبعد أن كانت الفرق الموسيقية تتنقل بين البلدان لتؤدي وصلاتها الغنائية صارت تتبادل خبرات تحطيم الآلات الموسيقية.
ولا شك أن منظر تلك الآلات الموسيقية المهشّمة بقدر ما يثير البهجة عند أعداء الموسيقى يبعث على الحسرة والأسى في نفوس أولئك الذين يقاتلون من أجل توطين الفنون في المجتمع. حيث تأخذ الصورة هنا شكل المعركة الحقيقية، التي يعلن فيها الرافضون لفكرة الفنون انتصارهم وتمكّنهم المبين من تحطيم الأصنام وهزيمة الشياطين. خصوصاً أن طقس تحطيم الآلات الآثمة كما يأتي في السرد المصاحب، إنما يتم بعد استتابة العواد والتحاقه بفصيل التائبين العائدين إلى رشدهم.
إذاً، لا جديد في مسألة رفض الفن ومقاومة البهجات المتأتية من المعازف في المجتمع المحكوم عليه بالمحافظة حد التزمُّت. ولكن الجديد يكمن في هستيرية الطقس، والعدوى التي صارت تصيب الكثيرين بنشوة التخلّص من شياطين النغم والالتحاق بالصالحين. بمعنى الخروج من نادي الفسقة. فحفلات التدمير الصاخبة تلك لا تحدث في الخفاء، ولا تتم كطقس تطهُّري من آثام الغناء، بل يتم تقديمها بشكل استعراضي مصحوب بصيحات الهيجان التي تعادل صرخات الحرب.
ولأنها معركة تحدث على هامش الحياة لم يأبه لها أحد، بل إن الصور الآخذة في التنامي والتكاثر صارت محل تندر لمتصفحي الإنترنت ومدمني اليوتيوبات والواتس أب. حيث صاروا يشاهدون مقاطعها الفلمية كمواد كوميدية. ولم ينجرف محبو الفن وراء غبار حرب مفتعلة، فالفن موجود ومحمي ليس بموجب القوانين والأنظمة، بل في وجدان الناس الذين يجدون في الموسيقى والغناء محلاً للتعبير عن أحاسيسهم واستنطاق خلجات نفوسهم.
إن حملات تكسير المعازف المتعاظمة، كما يبدو، مجرد طقس منغلق على نفسه. طقس تؤديه فئة قليلة وسط حاضن اجتماعي هائل محب للفنون. وهو إجراء مسرحي محدود الأثر مهما بالغ ممثلوه في شخصنة الأعواد، أو مثلنة الفلاش ميموري والجوال المزدحم بالأغاني ثم تحطيمها كأصنام. بمعنى أن تخليق العدو بمواصفات شيطانية ثم الإجهاز عليه لن يؤسس لتلك الصورة الذهنية البشعة التي يعمل القائمون على حفلات تحطيم المعازف على توطينها في الأذهان.