يخطئ الكثيرون حين يعتقدون أن مصادر المعرفة مقتصرة على الكتب ومقاعد الدراسة والانترنت والفضائيات وغيرها من الأوعية المعلوماتية الحديثة الأخرى، وهذه رغم أهميتها وكونها تحتل الأولوية في تلقي المعلومات والاستفادة والإفادة منها إلا أنها- قطعاً- ليست كل شيء.
المعرفة يستفيدها الإنسان في كل لحظة من حياته إن هو أراد ذلك بشرط أن يكون لديه الاستعداد والرغبة وعدم الاستعلاء إذ إن أكثر عائق يمنع من الاستفادة والتعلم هو شعور المتعلم أنه وصل إلى مرحلة عليا ومنزلة كبرى وهذه الحيلة النفسية التي يقع فيها العديد من أصحاب الشهادات تسبب لهم معضلتين: الأولى أنه يصاب بالغرور المعرفي والثانية توقفه حد الجمود عن الاستزادة من العلم باعتباره وصل إلى أعلى الدرجات العلمية.
وإن أمثال هؤلاء غاب عنهم ما قاله أحد الحكماء: كلما ازددت علماً ازددت معرفة بجهلي، وهذه العبارة تشير إلى ما يجب أن يكون عليه العالم الحقيقي مهما بلغ من العلم.
ولعل من مصادر المعرفة المهمة التي أهملها الناس الجلوس مع كبار السن هؤلاء الذين أزعم أنهم يمثلون حالات معرفية غاية في الأهمية فكثير منهم عاشوا تحولات اجتماعية ومروا بتجارب حياتية ثرية ويمتلكون خبرات غاية في الأهمية.
كنت في أحد المجالس وطرح أحد المثقفين تقصير الباحثين في تدوين التاريخ الشفهي من كبار السن الذين تكتنز ذاكرتهم معارف ومواقف وحكما وقصصا لا يمكن أن تجدها في الكتب مهما اقتنيت وبحثت وتصفحت، ولا شك أنهم ثروة معرفية بالغة الأهمية ينبغي اقتناصها واستثمارها في وقتها.
في الغرب والشرق يحرص بعض كبار السن على تدوين ونشر مذكراتهم هذا الأمر يكاد يكون نادراً في مجتمعاتنا العربية وهنا يبرز دور الدارسين والباحثين في التصدر لهذه المشاريع البحثية بشكل جاد.
وهناك جهود مشكورة قامت وتقوم بها دارة الملك عبدالعزيز وعدد من الجامعات والمؤسسات التعليمية ضمن هذا الإطار بيد أنني أتمنى أن يوضع هذا الأمر ضمن الخطط الاستراتيجية للمراكز البحثية والكليات والأقسام المختصة.
وبالتأكيد فإن الاستفادة من كبار السن لا تقتصر على المؤسسات الأكاديمية بل إنني أدعو جيل الشباب أن يكونوا قريبين من الشيوخ في أسرهم ومعارفهم وجيرانهم هؤلاء الذين لن يبخلوا عليهم بالتوجيه والنصح والإرشاد.
وأقول لكل شاب بدل أن تتعلم في الحياة من أخطائك التي قد تكون مؤلمة لك ولمن حولك استفد من تجربة أو خبرة شيخ كبير تعينك على تجاوز الكثير من العقبات والأزمات.
ومشكلة شبابنا كونهم يعيشون في زمن متغير ومتحول ومتسارع هذا ولد لديهم قناعة أن كبار السن عاشوا في زمن غير زمانهم وأنهم يقبلون النصائح منهم على مضض ومن باب المجاملة وليس الاقتناع والتطبيق وهذه إشكالية بنيوية في تفكير أبنائنا وبناتنا أتمنى من المربين علاجها بالشكل التربوي الصحيح.
ولقد وقفت على تجارب عدد من الناجحين من المتفوقين والنابهين ووجدت أن من أسباب ذلك التفوق اللافت استفادتهم الكاملة ممن يفوقونهم قدرا ومعرفة وسناً وخبرة.
وجانب مهم آخر فالفائدة هنا ليست مقتصرة على كبار السن المتعلمين فقد تكتشف فائدة لا تقدر بثمن من رجل عامي بسيط أمي لا يقرأ ولا يكتب ولكن شريط ذكرياته قد سجل من الأحداث والحكايات والمواقف ما يمكن أن يعتبر سبقاً معرفياً وعلمياً.
إنها نافذة معرفية موجودة وكنز علمي متاح فما أجمل أن نقطف أزهاره ونجني ثماره قبل فوات الأوان.