تحولات كبيرة تأخذ مكانها في مزاج العراقيين، تجاه حالة الركود والفساد التي عمت البلاد، عبرت عن نفسها في الانتفاضة العارمة، التي تعم الآن معظم المدن العراقية، من الشمال إلى الجنوب.
الجديد في الأمر، أنها المرة الأولى، التي تعبر فيها المحافظات الجنوبية، عن رفضها هيمنة الميليشيات الطائفية، وللتدخلات الإقليمية في الشؤون الداخلية للعراق.
لقد بدأت عملية الاحتجاجات ضد انعدام الخدمات الصحية، وفقدان الكهرباء، منذ أكثر من سنتين، أثناء تولي نوري المالكي رئاسة الحكومة. وقد ساد السؤال، في هتافات المحتجين عن الكهرباء. وكانت الحناجر في ساحة التحرير، في قلب العاصمة تهتف متسائلة «أين الكهرباء يا دولة القانون»، في اتهام واضح بالتقصير للكتلة السياسية التي كانت تقود السلطة، والتي ترأسها المالكي نفسه، والمعروفة "بكتلة دولة القانون".
لكن تلك الاحتجاجات لم تنتشر لبقية المدن العراقية، وبقيت محدودة في العاصمة بغداد. كما أنها لم تستمر طويلا، حيث تمكنت سلطة وميليشيات المالكي من قمعها. لكنها شكلت علامة بارزة، في تاريخ مناهضة الاستبداد والإقصاء والفساد من قبل العراقيين.
لقد جاءت هذه الأحداث، وسط تغول تنظيم داعش في شؤون العراق، واحتلاله عددا من المحافظات العراقية، ذات الموقع الاستراتيجي، وعلى رأسها محافظة الأنبار، التي تمثل أكبر محافظة عراقية من حيث الحجم، وتمثل شريطا طويلا، يمتد من الشمال إلى الجنوب، يفصل بين البلاد وسوريا.
يسيطر تنظيم داعش أيضا، على محافظة نينوى، التي تشكل الموصل مركزها. والموصل هي المدينة العراقية الثالثة، بعد بغداد والبصرة، من حيث تعداد السكان، وأيضا من حيث الأهمية التاريخية. كما يسيطر على أجزاء كبيرة من محافظة صلاح الدين، المحافظة التي انحدر منها معظم القادة السياسيين للنظام الذي أسقط بفعل الاحتلال الأمريكي لأرض السواد.
وكان احتلال مدينة الموصل، بداية تململ حقيقي من قبل الشعب العراقي. فالاستسلام السهل لقطاعات الجيش العراقي، أمام زحف داعش، قد كشف للجميع عن هشاشة بنية هذا الجيش، وأوضح أن ملايين المليارات التي صرفت من أجل بنائه، قد ذهبت في جيوب اللصوص والمنتفعين. وأن سياسة القسمة والتهميش لا يمكن أن تسهم في خلق جيش وطني قوي قادر على الدفاع عن الوطن، والذود عن حياضه.
ووسط العجز والفشل، من قبل الدولة والجيش عن استعادة الأراضي التي احتلها تنظيم داعش، تخلخلت هياكل الدولة، وفقدت مشروعيتها. وتداخل عجزها بسياستها الفاسدة، وعمليات النهب والإقصاء والتهميش لتضاعف من حالة الاحتقان والغضب من السياسات الطائفية للحكومة.
ولا شك أن الانتشار السريع لما يعرف بتنظيم داعش، وتكشف زيف «الربيع العربي» وكيف أدت نتائجه إلى تفكيك النظام العربي، والقضاء على الكيانات الوطنية، قد أسهم في خلق وعي جديد، بأن ما تتعرض له بلادهم هو جزء من سياسة كونية، لا تستهدف العراق وحده، بل المنطقة بأسرها.
لقد كان العراق البوابة الرئيسية التي انطلق منها مشروع الشرق الأوسط الجديد، والمختبر الأول للفوضى الخلاقة، التي أعلن عنها وزير الدفاع الأمريكي رونالد رامسفيلد، خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن. وقد تكررت عبارة الفوضى الخلاقة على لسان عدد من المسؤولين الأمريكيين المحافظين، لم تكن وزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس الأخيرة ضمنهم.
وعندما طرح الإستراتيجيون الأمريكيون، الانتهاء من تركة سايكس- بيكو، وإعادة تركيب المنطقة، وفقا للهويات الدينية والطائفية والإثنية، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، اعتبر العراق المحطة الأولى، لتحقيق ذلك. وحينها جرى الحديث عن بلاد السواد، باعتبارها منطقة رخوة، تضم تشكيلات فسيفسائية، غير قابلة للاستمرار.
احتل العراق، من قبل الأمريكيين، في ابريل عام 2003م، واعتبر المحافظون هذه الخطوة، مقدمة لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي سيجري تعميمه على المنطقة بأسرها. وهكذا جرت هندسة نظام، مستند على الهويات العرقية والطائفية، وليس على أساس الانتماء لوطن واحد.
وكان المؤمل من المحافظين الأمريكيين أن النموذج السياسي الذي وضعه السفير الأمريكي في بغداد، بول برايمرز والقائم على تقسيم العراق حصصا بين الطوائف والأقليات، أن يجري تطبيقه على بقية البلدان العربية.
ومنذ السنوات الأولى للاحتلال، بدأ الإفصاح، عن النية في تقسيم العراق إلى ثلاث دول، وفقا لخريطة حظر الطيران، التي فرضت على الحكومة العراقية، أثناء عهد الرئيس بل كلينتون، انسجاما مع ترتيبات القسمة: دولة كردية في الشمال، وشيعية في الجنوب، وسنية فيما أطلق عليه بالمثلث السني.
وفي هذا السياق، كان أول اعتراف أمريكي رسمي بنية تقسيم العراق، قد جاء في صيغة مشروع تقدم به نائب الرئيس الأمريكي الحالي، جوزيف بايدن، الذي كان آنذاك، يرأس الأغلبية التي يقودها الديمقراطيون في الكونجرس الأمريكي. وجرى التصويت على المشروع، من قبل الكونجرس، وصدر قرار غير ملزم به، يقر بتقسيم العراق.
وفي أوائل شهر يونيو، من هذا العام أعاد النائب ماك ثورنبير رئيس اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ مطلب تقسيم العراق، إلى دول ثلاث، وطالب بأن تكون الخطوة الأولى على طريق تنفيذ مشروع التقسيم، هي إحالة المساعدات الأمريكية مباشرة، للأقليات القومية والطوائف الدينية، بدلا عن تقديمها للحكومة المركزية.
وقبيل عدة أيام، من هذا الشهر، وقف رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال ريموند اود ييرنو، معلنا أن لا حلّ للحالة المتدهورة في العراق، إلاّ بتقسيم البلاد، ليؤكد الحضور الدائم لفكرة تفتيت العراق، في أذهان وأجندة الساسة الأمريكيين. وكان تصميم النظام السياسي، فيما عرف بالعراق الجديد، تم بهياكل وأدوات تفتيتية، أهم ملامحها الطائفية والفساد، ومنع العراق من التقدم والبناء، والحيلولة دون خروجه من المحنة.
لقد مر العراق، بأكثر من اثنتي عشرة سنة عجافا، شرد فيها أكثر من ستة ملايين عراقي خارج بلادهم، خوفا من الاجتثاث والقتل. ومورس بمنهجية القتل على الهوية والإقصاء. نهبت مئات المليارات من الدولارات من الخزينة العراقية، واعتمدت مشاريع وهمية لم تر النور، ذهبت كلفها في جيوب الفاسدين والانتهازيين والمنتفعين. وبقي الشعب العراقي من دون أمل أو خلاص. كما ساءت علاقة الدولة العراقية، بأشقائها العرب.
رفض شعب العراق، منذ الوهلة الأولى لاحتلال بلاده، أن تكون أرض السواد مختبرا، لمشروع الشرق الأوسط الجديد. وبدأ منذ لحظة سقوط بغداد مقاومة أسطورية، أكدت الحضور التاريخي والعريق لبلاد النهرين. وأرغم المحتل تحت وطأة مقاومة العراقيين، الشجاعة والأسطورية على الانسحاب. وكان برنامج الانسحاب، على رأس برنامج باراك أوباما الانتخابي في دورته الأولى.
لكن تركة الاحتلال المقيتة بقيت جاثمة على رقاب العراقيين، متمثلة في العملية السياسية الهشة، وفي الفاسدين، الذين قدموا على ظهور دبابات الاحتلال من الخارج، والذين يتلقون توجيهاتهم من خارج الحدود. وتمثلت أيضا في سرقة قوت الشعب ومستقبله. وفي طمس الهوية العربية للعراق، الهوية التي صنعت تاريخه وحضوره وألقه.
لقد برر الأمريكيون دعواتهم لتقسيم العراق، باستحالة تعايش السنة والشيعة في العراق، فضلا عن استحالة تحقيق المصالحة فيما بينهم. وجاءت الانتفاضة الأخيرة، لتؤكد زيف وعقم هذا التضليل. فهذا البلد الغني بثرواته، والذي يعتبر من أهم الدول المصدرة للنفط، ويتميز بعبور نهرين كبيرين فوق أرضه، هما دجلة والفرات، لم يستثن أحدا، من الجوع والضنك وغياب الحقوق، ولم يميز في سياسات الإقصاء والتهميش بين شيعي وسني وكردي. لقد استبيح العراق وثرواته من قبل الميليشيات الطائفية، التي اعتبرت العراق ملكا خالصا لها.
أدرك العراقيون بحسهم العميق، أن المعاناة، ليست حصرا في جماعة أو فئة أو مذهب أو منطقة، وإنما كانت معاناة شاملة، لكل العراقيين بكل مكوناتهم، ومختلف شرائحهم تماماً كما ضمت قائمة الفاسدين، مسؤولين سياسيين من كل ألوان الطيف العراقي.
في هذه الأيام ينتخي العراقيون جميعا، بعيدا عن لغة الطوائف، ومن الجنوب... من قلب النخيل وقريبا من القرنة في البصرة، حيث مصب النهرين العظيمين، ومن الكوت الخضراء، والعمارة حيث الفنون والإبداع، لتنتشر إلى كل مدن العراق وبلداته وقراه، رفضا للطائفية والتبعية والفساد والتقسيم والمحاصصة. مطالبة بالقصاص ممن تسببوا في ضياع الوطن، وسقوط مدنه بيد الإرهاب، وليكون البديل عن ذلك مواطنة شاملة، واستقلال حقيقي، ونزاهة ووحدة العراق شعبا وأرضا.
يقدم العراقيون برفضهم مشاريع الإقصاء والتقسيم، الجواب الحاسم، رفضا للتفتيت ودعما لوحدة العراق. تعبر كل الأطياف العراقية مجددا عن التآخي والوحدة. ويدرك العراقيون أن محاسبة الجناة، والقصاص منهم، أول الطريق نحو بناء العراق الجديد الموحد، ودولته الحديثة.
سوف ينتهي بإذن الله عراق الأحقاد والطوائف، ويبقى العراق العربي، الذي يقف في خندق واحد مع أشقائه العرب، ويكون عمقه الإستراتيجي ناطقا بالعربية الفصحى، من غير وجل.
ليس أمام حكومة العبادي، سوى الاستجابة لنداء العراقيين، ومحاسبة الفاسدين، ومنعهم من مغادرة البلاد، ووضع كل مسؤول تحت طائلة المحاسبة. وتأكيد استقلال وعروبة العراق، بعيدا عن الاستتباع للقوى الإقليمية والنزعات الطائفية. وما أعلن من خطوات إصلاحية حتى الآن، يبقى أقل بكثير من حاجة العراقيين.
يحتاج العراقيون القضاء على البطالة وتوفير فرص العمل، وتأمين الكهرباء والسكن الصالح، والعلاج المجاني والتعليم، والنهوض بالبلاد من كبواتها. وذلك لن يتم إلا بإلغاء العملية السياسية، التي قسمت البلاد بين الطوائف والأقليات. ولن تتوقف انتفاضة الشعب العراقي، إلا بتحقيق أهدافه. وقد أكد العراق بكل طوائفه، وفي القلب منهم النشامى من أبناء الجنوب، انتصاره للهوية الوطنية الجامعة، وأنه عابر للهويات الصغيرة.
وقريبا سينتهي المد الشعوبي الحاقد على العراق والعرب جميعا، ويعود للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور حضوره، في قلب بغداد بحي المنصور، سترتفع رايته فوق السواري خفاقة مجيدة.