هناك قراءة نموذجية للحداثة الغربية تبدأ من القرن الحادي عشر حين عاد الفلاسفة إلى كتب الفلسفة اليونانية من أجل وضع حجر الأساس لنزعة الأنسنة التي ستظهر فيما بعد، وعلى إثر هذا النشاط الفلسفي خاض المفكرون صراعا ضخما من أجل النهوض بالحداثة حتى جاء عصر التنوير، وتخبرنا هذه القراءة عن الدور الفاعل والمركزي للمثقف والمفكر والفيلسوف. تفترض هذه القراءة أن الفكرة هي التي تصنع الحدث وتقود الناس وتشيد الحضارات وتغير مسار التاريخ. وتفترض أيضا أن المفكرين هم بناة الحضارات وصناع الثقافات.
من المهم هنا أن نلحظ أن التاريخ يكتبه المؤرخ والفيلسوف والعالم، أو بمعنى آخر يكتبه المفكرون الذين يمجدون ذاتهم ويصنعون تاريخهم من خلال التمركز حول جهدهم وصراعهم، وحين تتحول القراءة إلى نظرية ستكون الأفكار هي مقدمة التغيير، وليست الأفكار هنا سوى المفكرين أنفسهم.
لو استمعنا إلى الآخرين من غير المفكرين لوجدنا كل صاحب اتجاه يتمركز حول نفسه، فالسياسيون قديما وحديثا يعتقدون بأنهم من يقود دفة التغيير ويعبر بنا دروب التاريخ، وسيقول العسكريون مثل ذلك وأكثر، وسيحدثك أهل الاقتصاد عن الصراع بين طبقات المجتمع. ولن يتوانى أبناء التنظيمات الشمولية الأيديولوجية عن طرح رؤيتهم في أن التربية والانضباط والعمل المؤسسي الهرمي هو أساس التغيير، ولن يكونوا أقل قدرة من غيرهم في سرد روايتهم للتاريخ، وفي نثر الشواهد المتتالية والتي ستبدو للسامع منضبطة في إثبات أن الأمم لا تتغير إلا عبر حركات تغييرية صارمة وشمولية وربما سرية. وسيحدثك الأكاديميون أيضا عن دور الجامعات المركزي وكذلك سيحدثك المعلمون، ولن تتأخر المؤسسات الدينية عن هذا السباق المحموم في إثبات مركزيتها، ستتلو عليك النصوص الدينية والمقولات المأثورة وفق تأويلها الخاص دون عناء فصله عنه، لتبين لك بما لا يدع مجالا للشك أن العلماء الربانيين هم من يقود الدفة، وأن القارئ المتجرد للتاريخ لن يرى سوى ذلك.
إن قراءة التاريخ تعتمد على ما كتبه الإنسان عنها، ولا أظنني بحاجة إلى الحديث عن استحالة موضوعية الإنسان الكاملة في روايته للأحداث، فكل مؤرخ حاضر بتحيزاته، واقع تحت كم هائل من السلطات المرئية كالسلطة السياسية والدينية وسلطة الناس والقراء، وسلطات أخرى غير مرئية كسلطة الكلمات واللغة. ثم يأتي مفكر معاصر ليقرأ التاريخ وفق قراءة أولئك المجتهدين، ليعثر في الكلام عن مبتغاه عبر تأويله الخاص، لذلك سيقرأ المفكر دور أسلافه المركزي، إنه يقول بشكل غير مباشر انه هو المركز، وأن على الساسة وأصحاب القرار ومن قبلهم عامة الناس أن ينصتوا له، لأن دفة السفينة بيده، ولأنه الوحيد القادر على أن يعبر بهم بوابة الحضارات.
التغييرات لا تتم إلا عبر معطيات كثيفة ومتداخلة ومعقدة، وحين تظهر فكرة ما في كتاب أو مقالة أو محاضرة أو جامعة فإنها بحاجة إلى أرض تقبل بوجودها حتى تتمكن من الوجود، إن ظهور فكرة لم يسمح التاريخ بعد بقبولها يعني رفضها، ولا تقتصر هذه المعطيات على الصراع الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي فحسب، إنها معقدة لدرجة يصعب رؤيتها وربما يستحيل، لذلك يعتمد من ينادون بالتغيير على حدسهم، ويأتي المثقفون فيما بعد ليعيدوا بناء الأحداث التاريخية ويقدموا استنتاجاتهم.
من يتجه إلى الفكر والثقافة والفلسفة سيحاول أن يبين مدى أهمية توجهه هذا، الإنسان بطبعه يأنف من القول إن سبب اهتمامه هو لذة شخصية يجدها في القراءة أو الكتابة أو البحث، إنه يريد أن يقول لنا إنه لولا قناعته بأن هذا هو طريق التغيير لا غير وإلا لما كان بذل جهده ووقته من أجل ذلك، ومثله أهل التجارة والسياسة والتربية، إنهم بكل بساطة يرفضون الاعتراف برغباتهم، لا يملكون القدرة على القول إن هذا العمل هو ما يبرعون فيه، أو إنهم لم يبرعوا إلا فيه.