صراع طويل بين أكثر من 4000 مرشح تنافسوا على 600 مقعد، في البرلمان الذي بات يحمل اسم "مجلس النوّاب" بعد إلغاء مجلس الشورى، الذي كان يعتبره كثيرون مثل الماء.. "لا لون، لا طعم، لا رائحة".. صراع يرى فيه غالبية المصريين البسطاء، مجرد جواز سفر يستحق أن تُصرف من أجله الملايين، نحو قبة برلمان يضمن تحقيق المصالح، وتمرير "واسطات" ولا مانع من التقاط صور تذكارية للمتاجرة بها فيما بعد، مع اهتمام قليل بالهدف الأساسي.. التشريع.!
بداية وتغيير
منذ العام 1829، حيث أنشأ والي مصر، محمد علي باشا، أول حياة نيابية، وأقام مجلساً للمشورة، بهدف توطيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بدأت أولى بذور الحياة التشريعية، صحيح أنها كانت خجولة، حيث كانت وظيفة المجلس المكون من كبار التجار والأعيان والعمد والمشايخ والعلماء، هي مجرد إبداء الرأي في المسائل الإدارية العامة دون أن يلتزم محمد علي بتنفيذها، ولكنها كانت تاريخياً التجربة الأولى التي تعطلت بمجرد وفاة محمد علي.. واستمرت "نائمة" تماماً لمدة 37 عاماً.
كان التغيير الأكبر، في عهد الخديوي إسماعيل، الذي أنشأ في 22 أكتوبر 1866، أول برلمان نيابي تمثيلي بالمعنى الحقيقي، أطلق عليه اسم "مجلس شورى النواب"، وتكون من 75 نائباً ينتخبهم الشعب من طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية كل ثلاث سنوات.
ومع أن هذا المجلس كان استشارياً وليس إلزامياً أيضاً، إلا أنه يمكن القول إنه واكب ظهور ما يمكن اعتباره "رأياً عاماً مصرياً" بدأ في التشكل مع ظهور الصحافة المصرية، وكان من ثمرته أن لعب دورًا مناهضًا للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد أثناء أزمة الديون الخارجية، وربما يكون جاء تحديداً ليتولى وزارة مالية مصر نتيجة الضغط على الخديوي من قبل الباب العالي والدائنين الأجانب.
تعبير حقيقي
وفي عهد الخديوي توفيق، تحوّل مجلس شورى النواب إلى "مجلس النواب" عام 1881، والذي كان يعد وقتها تعبيرًا حقيقيًّا عما تمناه كثيرون للنظام السياسي المصري، ولأول مرّة، نال المجلس عدة حقوق اقتسمها مناصفة مع الخديوي، إضافة إلى حق إقرار الضرائب والمسائل المالية بعد مناقشتها والتصويت عليها، فكان ذلك يبشر بقيام حياة نيابية نشطة ومن ثم قيام نظام ديمقراطي يكون الأول من نوعه في مصر، ولكن جاء قرار الإنجليز والقوى الأوروبية للسيطرة على مصر وقناة السويس، التي أرادت هدم النظام النيابي بدعوى تهدئة الأحوال في مصر، واستبدلته بنظام آخر به تمثل في الأول مايو سنة 1883، بـ"مجلس قانوني" الذي وضعه اللورد دفرين، ما أدى إلى انتكاسة الحياة النيابية.
دستور.. ودستور
وظل الحال هكذا طيلة قرابة 40 عاماً، حتى تم إقرار "دستور 1923" بعد الاعتراف الرسمي من قبل بريطانيا بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وسنَّ الدستور الجديد قيام أول مجلس نيابي حقيقي له سلطة مساءلة الحكومة وسحب الثقة منها، ولا تستطيع الحكومة أو الملك سن أي قوانين أو تشريعات جديدة قبل عرضها على المجلس والتصويت عليها إما بالرفض أو القبول.
ومع ذلك، لم يكن البرلمان الجديد بمجلسيه "النواب والشيوخ" مثالياً تماماً، إذ حدَّ من سلطاته حق الملك في إقالة الحكومة وحل المجلس في أي وقت، وهو ما حدث بالفعل في معظم الأحيان، كما أن الصراع الحزبي بين حزب الأغلبية وأحزاب الأقلية قد بلغ درجة عالية فضاعت معه أصوات المنادين بمصلحة الوطن، لتكون القنبلة.. إلغاء هذا الدستور.. ليأتي بعده دستور 1930، والذي أطلق عليه "دستور الملك"، بموجب الصلاحيات الواسعة للملك فؤاد وقتها، لكن ذلك لم يدم طويلا، بسبب تزايد الضغط الهائل على الملك رفضاً له، ليُصدر في 19 ديسمبر 1935 أمرا ملكيا بإلغائه وإعادة العمل بدستور 1923.
مجلس الأمة
طيلة 30 عاماً تقريباً، ظل دستور 1923 هو السائد حتى قامت ثورة يوليو 1952م، فشُكّل أول مجلس نيابي حمل اسم "مجلس الأمة"، استمر 6 سنوات فقط، حتى فبراير 1958، تغير اسمه إلى "مجلس الأمة المشترك" عقب الوحدة مع سوريا. وقد استمر حتى 22 يونية 1961، وبمجرد سقوط الوحدة صدر عام 1964، دستور مؤقت، دام حتى تولي الرئيس الراحل أنور السادات الحكم، فدعا مجلس الأمة في مايو 1971 لإعداد دستور جمهورية مصر العربية الدائم وعرضه على الشعب في الاستفتاء، ثم جاء استفتاء آخر في أبريل 1979، أنشئ بموجبه "مجلس الشورى"، الذي عقد أولى جلساته في أول نوفمبر 1980، ومعه عادت فكرة وجود مجلسين تشريعيين في الحياة النيابية المصرية.
ما بعد يناير 2011
عقب ثورة 25 يناير 2011، جرى تعديل قانون انتخاب مجلسي الشعب والشورى ليصبح انتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب بنظام القوائم الحزبية المغلقة والثلث الآخر بالنظام الفردي، كما أصبح عدد أعضاء المجلس 498 عضوا بطريق الانتخاب السري المباشر والعام على أن يكون نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين، فضلا على 10 نواب يجوز لرئيس الجمهورية تعيينهم.
وبعد عامين فقط، عقب ثورة 30 يونيو، تم إلغاء مجلس الشورى، بموجب تعديلات دستورية، لتعود أمور التشريع لغرفة واحدة منتخبة تحت اسم مجلس النواب، يتكون من 600 عضو، مع حق رئيس الجمهورية في تعيين ما لا يزيد على 5 بالمائة من أعضائه، ويُنتخب 20 بالمائة منه بنظام القائمة المغلقة، فيما 80 بالمائة بنظام الفردي.. وهذا ما حدث.
وانفض المولد
بانتخاب البرلمان الجديد، يمكن القول إن مصر استكملت بشق الأنفس آخر مستحقات خارطة الطريق التي أعلنتها القوات المسلحة، عقب عزل الرئيس السابق محمد مرسي في 3 يوليو 2013، وهو ما يقضي تماماً على أية آمال لجماعة الإخوان وتنظيمها الدولي بإمكانية العودة للحياة السياسية ولو من دون مقابل.
صحيح أن قلة الإقبال التي صنفت في جولتها الثانية ما بين ضعيفة ومتوسطة، ربما أرّقت الحكومة التي قدمت كل الإغراءات لناخبين اكتفوا بالحصول على إجازة نصف يوم، إلا أن ما تناثر من شكاوى مثيرة حول استخدام المال السياسي من قبل رجال أعمال (لكل العصور)، لرشوة الناخبين، بالتزامن مع فزاعة استشرت في الأشهر الأخيرة، ومخاوف من تسلل المحسوبين على جماعة الإخوان المحظورة، أو ممن يُعتبرون فلول نظام مبارك، إلى قبة البرلمان.. تسببت مع مقاطعة شريحة كبيرة من الشباب في هذه النسبة المحدودة من الإقبال.
في كل الأحوال.. انفض العرس، وكعادة المصريين، فإنهم دائما ما ينسون أو يتناسون، ولسان حالهم المعتاد يكرر نفس مقولات حفلات شعبية، لا تختلف كثيراً عن أعراس الانتخابات المتكررة والمملّة. وهو المطلوب إنجازه بأي شكل وبأي ثمن.!