العلم والإيمان حاجتان أساسيان للبشر، منذ بدأ الاجتماع الإنساني.. فالأول مهمته الكشف عن أسرار هذا الكون، والآخر مهمته اتخاذ موقف من هذا الكشف. وفي هذه القراءة، نميّز بين الأيديولوجيا، التي هي الوجه الآخر، للإيمان، كرؤية للكون، ليس بالإمكان تجاوزها لأي شعب، وبين التعصّب لها، وأخذ موقف معادٍ تجاه غيرها ممن لا يسلّم بهذه الرؤية.
في الحالة الأولى، ترسخ الأيديولوجيا اليقين، وتعزز الإيمان. وفي الحالة الثانية، يدفع التعصب للكراهية والاقتتال. الأولى بناءة، والأخرى هدّامة، وبين التسامح والتعصب هناك بون شاسع. ومجال الأيديولوجيا لا يقتصر على المعتقدات الدينية، بل يشمل السياسة والاقتصاد. وذلك ما يفسّر ارتباط الحديث عن نهايتها، بسقوط الحرب الباردة وتراجع دور التيارات السياسية الجذرية.
وحالنا في هذا الجزء من العالم، في الحاجة لليقين، لا يختلف عن حال الأمم والشعوب الأخرى. وقد كان للأوضاع السياسية العالمية، قبل تشكّل الدولة الوطنية وما بعدها إسقاطاتها المباشرة، على هذه الحاجة. لقد تأثرت حركات التحرر الوطني من أجل الاستقلال، وما تبعها من تشكيل لهياكل الدول العربية المستقلة، واختيارها لنظمها السياسية، بالمناخات الدولية، وأنماط الحكم، والأيديولوجيات التي سادت، بعد الحرب العالمية الثانية. وبشكلٍ خاص، انقسام العالم إلى معسكرَين، شرقي وغربي، بما ترافق معه من انقسام ليس فقط في النظرة إلى العالم، ولكن أيضًا الاختلاف في شكل التعاطي مع مفاهيم التنمية والعدل والتطور الاجتماعي.
وهكذا كان من أهم معالم الدولة الوطنية العربية الحديثة، أنها نشأت قبيل أو مع بداية اندلاع الحرب الباردة، والثنائية القطبية، وفي ظل تقاسم نفوذ القوة بين العمالقة الكبار، ومع ترصين ملحوظ في العلاقات الدولية. فكان أن انقسمت الدول العربية، في شكل نُظُمها وسياساتها، تبعًا لمواقفها ولخياراتها السياسية والاجتماعية، تجاه الطريقَين: نهج الغرب أو الشرق.
وخلال تلك الحقبة، وباستثناءات محدودة جدًا، تم تغليب الهوية الوطنية الجامعة، وتراجعت الهويات الصغرى لصالح المشاريع الوطنية. والصراعات السياسية، التي سادت في البلدان العربية، أثناء تلك الحقبة، سواء داخل البلد الواحد، أو في العلاقات بين بلدٍ وآخر، لم يكن لها علاقة بالهويات الصغرى، بل كانت على مشاريع سياسية واجتماعية، بما منحها أبعادًا حضارية.
ورغم الحالة الصراعية، الناتجة عن الانقسام حول أشكال نظم الحكم، كانت هناك قواسم مشتركة، تجمع الحكومات والشعوب العربية عليها. لعل من أهم تلك القواسم، النظرة للمشروع الصهيوني، باعتباره انتهاكًا للأمن العربي، ومعوقًا من معوّقات النهضة. وكان هناك تضامن جماعي عربي، يبرز بقوة أثناء المحن والشدائد، وتوق نحو تشكيل اتحاد عربي، وإن لم يتفق على حدوده، وشكله، وأسلوب تحققه.
انتهاء الحرب الباردة، ارتبط بانتهاء حقبة الثنائية القطبية، وتربع الولايات المتحدة على مركز صنع القرار الأممي. وكان ذلك في حقيقته هزيمة لأيديولوجية نظام الحزب الواحد، لكنه لم يكن انتصارًا لأيديولوجية الفريق الآخر، رغم ما تم الترويج والتنظير له، من أن سقوط الحرب الباردة، هو نهاية التاريخ، حسب فوكوياما.
أدت هزيمة الاتحاد السوفييتي والكتلة التابعة له، لتراجع الأفكار اليسارية، على مستوى العالم. وكان لذلك إسقاطاته على الواقع العربي. حيث أعيد الاعتبار للتوجّهات الغربية. وبرزت حقبة جديدة، سادت فيها الثقافة البراجماتية، باعتبارها ثقافة الرأسمالية الفتية. واعتبرت المرحلة الجديدة، مرحلة نهاية الأيديولوجيات. والتعبير هنا غير دقيق، فالرأسمالية أيضًا لها كتابها الخاص، ممثلًا في تنظير آدم سميث في ثروة الشعوب، ومَن أعقبوه من منظّرين واقتصاديّين، دافعوا بقوة عن الطريق الرأسمالي، وأسهموا في تجديد أدواته.
واقع الحال، أن ما حدث في حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، لم يكن هزيمة لأيديولوجيات، بل هزيمة لنظم وهياكل، لم تتمكن من تجديد أدواتها، لتكون قادرة على التنافس مع الجبهة الأخرى، في الغرب الرأسمالي، التي تمكّنت من تحقيق قفزات رئيسية في الممارسة والفكر.
وبالنسبة للعرب، كانت إسقاطات هذه المتغيّرات العالمية، أكثر قسوة وضراوة. فعلاقتنا بحلفائنا الآفلين، لم تكن مجرد ارتباطٍ بأفكار، بل بمصالح وتحالفات إستراتيجية. والأنكى من ذلك، أن هذا السقوط قد حدث في ظل تخلخل للنظام العربي الرسمي، تسببت فيه هزيمة 1967، وما أعقبها من الدخول في نفق التسويات، التي انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني في نهاية السبعينيات.
وما زاد الطين بلة، هو ارتباط هذا السقوط، بانهيارات عربية كبرى، بعد الغزو العراقي للكويت. وكان من نتائج ذلك تراجع الأيديولوجيات الأممية والقومية، بالوطن العربي.
ولأن الحياة لا تقبل الفراغ، والأمم حين تتعرّض لتهديد في وجودها، تلجأ لحيلها الدفاعية، لتحقيق توازنها النفسي. فإن الشعب العربي استمد حيله من ماضيه. فكان بروز التيارات الإسلامية المتطرفة، التي مارست الإرهاب والتخريب، هو ردة فعل على حالة الانهيار، بعد أن فشلت النخب العربية، في تحقيق الحُلم الكبير في التنمية والبناء، ومواجهة التمدد الصهيوني، وعجزها عن تحقيق التفاعل والتكامل بين الشعوب العربية.
خلاصة القول، إنه لا مناص من الأيديولوجيات، كرؤى للكون لا مناص منها، وقد كان ذلك هو الحال، منذ نشأت البشرية حتى يومنا هذا، وبين الدوغما، التي هي أعلى حالات التعصب، حيث يسود منطق الفرقة الناجية، التي لا تسلّم للآخرين، بالحق في أن يكون لهم رؤاهم وعقائدهم.
المعضلة إذن، ليست في وجود أيديولوجيات، أيًّا تكن توجّهاتها الفكرية. فوجودها ظل دائمًا تلبية لحاجة إنسانية دائبة لليقين، وإنما في تغول روح العصبية، وبلوغها حد الكراهية، لما عداها من العقائد والأيديولوجيات، إلى الحد الذي يرفع فيه السلاح، بحق الآخر وانتقال ذلك مع بروز ظاهرة الإرهاب، إلى الصراع بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد.
وأخطر ما في تغوّل الصراعات الأيديولوجية، إفرازاتها الطائفية، واستهدافها للكيانات الوطنية، وتهديدها للسلم الاجتماعي، وتغليبها للهويات الصغرى والجزئية، على الهوية الوطنية الجامعة.
وقد رأينا وبشكلٍ خاص، منذ برز ما عُرف بالربيع العربي في السنوات الخمس الأخيرة، مخاطر أيديولوجيات التطرف، حيث لعبت أدوارًا رئيسية في تفتيت العراق وليبيا وسوريا واليمن. وتهدّد الآن وحدة مصر ولبنان.. والقائمة ربما لن تنتهي عند هذا الحد، إذا لم نتمكّن من وضع حد لحالة الانهيار. وهو أمر يقتضي إعادة الاعتبار للهويات الجامعة، باعتبارها السبيل لحماية الدولة الوطنية، وتحقيق النهضة والتقدّم العربيين.
وفي هذا السياق، لن يكون مجديًا الحديث عن الإرهاب، الذي طال بأذرعه المختلفة، البلدان العربية، التي أشرنا لها، مهددًا أمنها واستقرارها ووحدتها، من غير ربطه، في جذوره ومنطلقاته بالتعصب الأيديولوجي، الذي يتلفع بالدعوة إلى العقيدة السمحاء. مخضعًا القيم الدينية، التي جاءت لتنقذ البشرية من التعصب والفوضى، لأجنداتٍ سياسيةٍ غريبة، ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد مرّ نشاط حركات التطرف بمراحل هبوط وصعود، وشهدت تفرّعات وانقسامات. وتزامنت بداية عصرها الذهبي، بالمنطقة العربية بالانهيارات التي شهدتها الأمة، إثر نكسة الخامس من يونيو عام 1967. فقد مرت الأمة العربية، بعد هذه النكسة بجملة تحوّلات، بالضد من أهداف المشروع النهضوي العربي، الذي بدأت مؤشراته، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، محلقًا بمشروع التنوير.
ولعل أهم العناصر التي تزامنت مع بداية العصر الذهبي للإسلام السياسي المتطرف، هي قبول فكرة الصلح مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، والتراجع عن مشروع النهضة، بشقّيه الوطني والسياسي، وبروز خطاب سياسي متواطئ مع حالة التفتيت والتشظي.
وكان عجز العرب، عن فعل أي شيء أثناء غزو بيروت عام 1982، وفشلهم الفاضح أمام صيحات أطفال فلسطين، في صبرا وشاتيلا هو التجسيد الفعلي، لحالة الانهيار العربي. وكان ذلك بمثابة فتح الطريق، أمام تغوّل الإسلام السياسي في الواقع العربي.
تقودنا هذه القراءة، إلى نتيجة مؤداها أن مناخات الإبداع وشيوع السلم الاجتماعي، هي مؤشرات رئيسية لمراحل النهوض، حيث لا مجال للإرهاب لتحقيق أي اختراق في المجتمع. وأن ضحالة الفكر، هي مؤشر لعهود التردي واستفحال ظواهر الإرهاب، وسقوط الكيانات الوطنية.
هكذا كان التاريخ الإنساني دائمًا وأبدًا.. فحين حوصرت أثينا من قِبَل اسبارطة، وألحقت الهزيمة بها في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، تحوّلت السيادة من أثينا منبع الفلسفة، وكان نتيجة ذلك انحطاط العقل الأثيني، وبدأ التمزق والانحدار وتدفق وروح الاستسلام، وبدأ انتشار المذاهب العدمية، التي لم تكن تعني سوى ثقافة الهزيمة، محاولة تحقيق التوازن النفسي، للشعب المهزوم.
وعلى هذا الأساس، فإن المجتمعات الإنسانية، حين تعجز عن مواجهة مصائرها وأقدارها تلجأ إلى أنماط مختلفة من الحِيَل الدفاعية، من ضمنها التطرف، لتحقيق توازنها النفسي. وهكذا أيضًا وأمام الفراغ السياسي، استمد قطاع واسع من الشعب العربي، حيله من ماضيه. فكان تغول حركات الإرهاب، تعبيرًا عن الانهيار، بعد عجز مشروع النهضة، في تحقيق الحلم اللذيذ في الانعتاق والبناء والتنمية.
مواجهة الإرهاب، الذي يعشعش في عددٍ كبيرٍ من البلدان العربية، ويطرق أبوابنا، ينبغي أن تستعيد روح التسامح والبناء والتصدي للقواعد الفكرية للإرهاب. وتصحيح مفهوم الأيديولوجيا، من الحالة العدمية، إلى الحالة الإيجابية، التي تجعل من اليقين معبرًا نحو مستقبل أفضل. فثقافة الموت التي تعمّمها منظمات الإرهاب، ينبغي أن تواجه بثقافةٍ أخرى، لا تقتصر على الأفكار والنظريات، بل ينبغي أن تتحوّل إلى فعل وممارسة. إنها ثقافة بناء المصانع، ومشاريع التنمية والبناء وتوسيع دائرة أنشطة الإبداع. فالنهضة هي في المبتدأ والخبر، هي نتاج تراكم الفعل الإنساني، وهدفها تحقيق رخاء أكبر، وزيادة في التعمير والإنتاج.
لا مخرج من هذا الوضع، سوى توفير الشروط للتحوّل إلى المجتمع المنتج. ولعل السبيل إلى ذلك هو صياغة خُطط تنموية صناعية، وتكثيف الفرص الاستثمارية للنهوض بهذا القطاع.. ولن يكون ذلك مجديًا بتغيير مخرجات الثقافة والتعليم، بالانتقال إلى الثقافة التحليلية والعلم، وثقافة المبادرة، والإبداع.