ثمة تبدلات، عميقة وجوهرية، تنتاب المزاج العام في الأردن، تدفع به إلى "الخروج" على "السائد" و"المألوف"، مبدداً ما انجبل عليه ضمن نظام سياسي راسخ ويحظى باتفاق واسع، رغم تقلّبه بين "الديمقراطية المقيّدة" و"العرفية المفرطة".
مؤشرات عديدة، يرصدها المراقبون، تعكس حجم التبدل في شعب يفتقد لأواصر "التنظيم" الأهلية، الحزبية والمدنية، رغم وجودها "الشكليّ" ضمن منظومة أمنية – قانونية - اجتماعية "خانقة" و"قادرة" على تقويض تأثير أي جهد جماعي للتغيير، كما حدث في "النسخة الأردنية" من "الربيع العربي".
"نصف دينار"، أضافتها الحكومة الأردنية على سعر "أسطوانة الغاز المنزلي"، كانت أخيراً عنواناً عريضاً لموجة احتجاج شعبي عارمة، داهمت نخبة الحكم في الأردن، ودفعت بها إلى "تراجع "شكلي" عن قرار الرفع، في محاولة لتخفيض حدة احتقان كاد أن يحيي "الربيع الأردني" مجدداً.
عبد الله النسور، رئيس الحكومة "الأكثر ذكاء" من بين أعضاء نادي رؤساء الحكومات الأردنية، أو "الأكثر دهاء" وفق الوصف المحبب إليه، تراجع عن قرار "النصف دينار"، لكن من دون أن يتخلى عن فكرة جبايتها من جيب المواطن الأردني، وهي الفكرة التي تُشكّل "جوهر النهج الاقتصادي" في المملكة.
الحكومة الأردنية، وفق الناطق باسمها د.محمد المومني، تراجعت عن "النصف دينار"؛ وعملت على التراجع عن رفع تراخيص المركبات، بذات الطريقة؛ بيد أنها أبقت على سلسلة طويلة من قرارات الرفع، التي لم تشكل – في ظنّها - محفّزاً للرأي العام.
في "المملكة الرابعة"، التي دشنها العاهل الأردني عبد الله الثاني، طرأ تغيّر جوهري في نخبة الحكم، التي اقتصرت سابقاً على نخبة بيروقراطية – عسكرية شكّلت عِماد السلطة، وأدى التغيّر إلى "شراكة عميقة" بين طبقة رجال الأعمال والنخبة التقليدية، أسفرت – أخيراً – عن تغوّل الاقتصادي وسيطرته عما سواه.
تغيّر نخبة الحكم، رافقه استقطاب رؤساء حكومات يؤمنون بأن "معالجة القضية الاقتصادية" غير ممكن من دون اللجوء إلى "جيب المواطن"، وشرعوا في برنامج طموح أسموه "التصحيح الاقتصادي"، تحت ضغوط من صندوق النقد الدولي، غايته تخفيض الدين العام للمملكة، بيد أن النتائج جاءت مغايرة تماماً لما جاء به الخطاب الحكومي.
الدين العام للأردن، المحكوم بنص القانون بنسبة 65% من إجمالي الناتج المحلي، ارتفع إلى "مستويات مرعبة ومقلقة"، وفق وصف استخدمه وزير في الحكومة خلال حديثه إلى "اليوم".
قلق الوزير، الذي تجنب إعلان اسمه، يبدو مبرراً، فـ "المديونية بلغت حدوداً غير مسبوقة، وناهزت 24.4 مليار دينار، وبما نسبته 90.3% من إجمالي الناتج المحلي، بينما لا يوجد أفق للحد من نموها، فيما لا تشكل نسب النمو، التي يتوقع أن تبلغ 3% العام الحالي، طوق نجاة".
في بداية ثورات "الربيع العربي" (2011)، أو ويلاته، بلغ الدين العام للأردن 11.4 مليار دينار، ما يعني أنه زاد مذّ ذاك حتى الآن بنسبة 114%، وهي الفترة التي شغل فيها رئاسة الحكومة خمسة رؤساء، أطاح "الربيع الأردني" بثلاثة منهم، وهم سمير الرفاعي ومعروف البخيت وفايز الطراونة؛ واستقال الرابع متهماً جهات لم يسمها بـ "اختطاف الولاية العامة"، وهو عون الخصاونة؛ فيما لا يزال الخامس (منذ تشرين أول/أكتوبر 2012 – حتى الآن) قادراً على البقاء على رأس الحكومة وهو عبد الله النسور.
مختلف الفرقاء في الأردن يقرّون لـ "النسور" بقدرته على "قيادة دفة الحكومة باحتراف"، مجنباً المملكة ويلات وموجات "الربيع العربي"، التي ضربت لكنها عجزت عن إحداث "التغيير السياسي"، الذي نشده النشطاء آنذاك، مستلهمين خطواتهم من تجارب دول شهدت "الربيع".
بيد أن الفرقاء ذاتهم، على حد سواء، لم يتوانوا لحظة عن مهاجمة حكومة النسور، ضمن منظومة للرأي العام تتسم بـ "مزاج غاضب"، ورافض – أيضاً للنهج الرسمي، وهو ما تجلى أخيراً في الاندفاع – من دون مواربة - باتجاه المطالبة بـ "إسقاط الحكومة" نتيجة "سياسات الإفقار" التي انتهجتها، وفق وصف نشطاء استطلعتهم "اليوم".
في الأردن، من النادر أن يهاجم أعضاء نادي رؤساء الوزراء زملاءهم، لاعتبارات عدة، أهمها أنهم جميعاً خيار العاهل الأردني، وبالتالي فإن "توجيه سهام الانتقاد يعني بالضرورة انتقاداً لرأس الدولة"، وهو ما يتجنبونه جميعاً، لكن هذه القاعدة لم تعد ناظمة لـ "مشاغبة" رؤساء الحكومات الأردنية، وهو ما ظهر واضحاً في هجمات متعددة ومتتابعة لرئيس وزراء أسبق، هو "الأقرب إلى الملك الأردني"، وفق مصادر مقربة من القصر.
رئيس الوزراء المقرّب هو سمير الرفاعي، سليل عائلة شغلت على ثلاثة أجيال رئاسة الحكومة في الأردن، وجه انتقادات لاذعة للنهج الاقتصادي، ولم يتوان – رغم قربه من القصر والملك - عن ذلك، بل أفرط في انتقاده حد التحذير صراحة من أثر السياسات الاقتصادية على الأمن والسلم الداخلي.
يقول الرفاعي: إن "النهج الاقتصادي، المرتكز على فرض ضرائب تستهدف الشريحة المتوسطة وذات الدخل المحدود والمتدني، تشكل بيئة خصبة، يمكن التسلل منها، للمتربصين والحاقدين والمتآمرين على المملكة، والتأثير على عقول الشباب، وجرهم نحو منعطفات خطيرة، بحجة تخليصهم من واقعهم المعيشي الصعب". تحذير الرفاعي، الذي جاء ضمن مزاج عام غاضب، لم يكتف بالاقتصادي، بل تعداه إلى السياسي حين تحدث، أمام "اليوم"، عن "فجوة" بين أداء "حكومة النسور الداخلي"، والأداء الخارجي للدولة، الذي يقوده العاهل الأردني.
لدى ترؤسه الحكومة الأردنية، لم ينتهج الرفاعي سياسياً واقتصادياً نهجاً مغايراً، بل جاء بما يكمل الصورة، التي لاحقت أسرة الرفاعي على مدى أجيال ثلاث ترأست الحكومة، سمير (الجد) وزيد (الأب) وسمير (الإبن)، وهي الصورة التي رافقت الذهنية العامة في قول تردده مختلف الأوساط في الأردن: "سنة سمير.. لا قمح ولا شعير"، كتعبير عن "المَحْل" أو "الجَدْب" الذي يصيب موسماً زراعياً.
سمير الرفاعي، الذي ترجّح أوساط رفيعة أن العاهل الأردني سيعهد إليه تشكيل حكومة مقبلة، لم يكن رجل الدولة الوحيد الذي انتقد حكومة النسور، لكنه الأرفع على الإطلاق، إذ من بين المنتقدين رجالات أمنية وعسكرية، فضلاً عن قادة حزبيين وحراكيين. في خلفية المشهد، رفعت أوساط أمنية "تقدير موقف" للملك، نقلت مصادر بعض مضامينه لـ "اليوم"، نبّهت فيه إلى "خطورة النهج الاقتصادي على الاستقرار الداخلي"، غير أنه لم يترك أثراً على الأداء الحكومي.
"تقدير الموقف" حذّر من "غضب شعبي، يتنامى بشكل سريع"، و"تآكل في هيبة الدولة، رغم ما يبذله الجهاز الأمني"، و"فقدان ثقة بمختلف السياسات الحكومية"، وأرجع ذلك إلى "السياسات الاقتصادية"؛ بيد أنه لفت إلى "لا مبالاة شعبية بملفات الإصلاح السياسي"، التي انعكست عبر عدة قوانين ، من بينها قوانين اللامركزية والبلديات والانتخاب. في وقت سابق على "تقدير الموقف"، أصدر "صندوق النقد الدولي" بياناً فاجأ الأوساط الرسمية، دعا فيه السلطات إلى إجراء "إصلاحات هيكلية"، ووجه انتقادات للأداء الاقتصادي، تعجز فعلاً الدولة الأردنية عن القيام بها، ما يعني بالضرورة "الاستمرار وفق ذات النهج"، بحسب المحلل والخبير في الشأن الأردني راكان السعايدة.
يقول السعايدة، لـ "اليوم"، إن "بيان صندوق النقد حمل معاني مختلفة عن مضمونه بالنسبة للرسميين الأردنيين، فهو يعني أن القوى الدولية المؤثرة تطلب أدواراً من الأردن، يمانع في القيام بها، لكنه لا يشكل رفعاً للغطاء".
لا أحد في الأردن ينكر حجم الضائقة الاقتصادية، التي باتت موضوعاً للتذمر الواسع، الذي لا يستطيع الرقيب كبحه، كما يفعل دوماً في المسألة السياسية، التي تقيدها منظومة قانونية قاسية.
ولكن، وفي مختلف المنعطفات الخطرة، التي شهدها الأردن، شكّل "الموضوع الاقتصادي والمعيشي" المحرك الرئيس للرأي العام، والرافعة الأقوى لقوى التغيير، في حين أخفقت المساعي التي تبنت مطالب سياسية، إذ لم تحظ بإجماع شعبي أبداً.
حين اندلعت أولى موجات "الربيع الأردني"، استلهمت جوهرها الفكري من نظيراتها العربية، فتبنى النشطاء مطالب ذات شقين، الأول: سياسي، تمثل في مطالب بالديمقراطية الكاملة والإصلاح السياسي، وتجلى تالياً في شعار صارخ ومرفوض شعبياً هو "إسقاط النظام"؛ والثاني: اقتصادي، تمحور حول رفض نهج الخصخصة، الذي أدى إلى تآكل مداخيل العاملين في القطاع العام، ووسّع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، بعد أن ألحق الطبقة الوسطى بالفقراء.
"إسقاط النظام"، رغم أنه لم يكن هدفاً لدى النشطاء بل شعاراً لـ "تخويف" السلطة والتفاوض معها، إلا أنه فضّ من حولهم الزخم الشعبي، ودفع بهم إلى العودة لمنازلهم دون تحقيق مطالباتهم، ولكن قراراً حكومياً، بعد تشكيل حكومة النسور بشهر واحد (تشرين ثاني/نوفمبر 2012)، يقضي برفع الأسعار والضرائب، أعاد الأردنيين إلى الشارع، وفي موجة احتجاج كانت "الأعنف" – وفق مراقبين - خلال "الربيع الأردني".
طوال سنوات، منذ "ثورة الخبز" (1996) وحتى الآن، شكل الموضوع الاقتصادي والمعيشي محوراً لإجماع مختلف الأردنيين، الذين يتوجسون من بعضهم في الملف السياسي، لاعتبارات ذات صلة بطبيعة التركيب الديموغرافي للدولة، إلا أنهم يشتبكون في مواجهة السياسات الاقتصادية، وهو ما تجدد في الرفع الأخير للأسعار.
بيد أن الجديد في الرفع الأخير ترافقه مع "انزياح" للشارع الأردني نحو "الغضب"، وتزامن ذلك مع تفصيلات اقتصادية مناطقية، في جنوب الأردن، شكلت جوهر الموجة، ما دفع الرأي العام، وعبر مختلف الوسائل، إلى "تأثيم النهج الاقتصادي"، و"تجريم الحكومة"، مستخدمين كلمات "التغيير" و"إسقاط الحكومة" و"العصيان المدني"، فضلاً عن تعالي أصوات نيابية في مجلس النواب، الذي طالما صمت عن الأداء الاقتصادي لحكومة النسور.
"قنبلة موقوتة"، بهذا وصف أمين عام حزب الوحدة الشعبية (يساري) د. سعيد ذياب لـ "اليوم" واقع الشعب الأردني، وقال: "على الحكومة أن تدرك أنها أحالت الشعب الأردني، بنهجها الاقتصادي، إلى قنبلة موقوتة، ستنفجر بأي لحظة، وعلى أبسط الأسباب".
وأشار ذياب إلى "توظيفات" الحكومة لورقة "المحيط الملتهب" في تسكين الشارع الأردني، واصفا إياها بـ "الورقة الخاسرة، فرغم إدارك الناس للحاجة إلى الأمن والاستقرار، إلا أن الجوع سيدفعهم إلى ما لا تحمد عقباه".
ليس "اليساريون" فقط من يتحدث عن "الانفجار"، "الإسلاميون" و"الوسطيون" و"المستقلون" ينحون ذات الاتجاه في تقديرهم للواقع، وللمزاج العام المتشكل في الأردن، بيد أن أحداً لم يقدم رؤية بديلة لإدارة الملف الاقتصادي، وهذا ما يمنح القوة للحكومة. الحركة الإسلامية الأردنية، وعلى لسان القيادي في الإخوان المسلمين مراد العضايلة، حذّرت من "صناعة الانفجار" التي تنتهجها الحكومة، والتي تؤسس لـ "حالة غير مسبوقة في المملكة".