تحدثت في مقالي السابق عن تدني جودة المباني السكنية، نظرا للثقافة التجارية المتفشية في قطاع الإنشاءات الفردي بشكل خاص. وتعود أسباب هذه المشاكل في معظمها إلى انخفاض كفاءة القوة العاملة في القطاع، فلا يوجد أي متطلبات مسبقة لدخول أي عامل كان ضمن قوى العمل في قطاع التعمير والترميم، بل يتعدى الأمر ذلك ليشمل كافة المهن الحرفية. الأمر الذي أثر على المؤهلات العلمية لقوى العمل السعودية، وخصوصا الوافد منها، بالإضافة إلى تدني مخرجاته وكفاءة الشغل. فلا يمكن ضبط جودة المخرجات بدون تأهيل العمالة. فأي حرفة مهما تدنت في سلم الوظائف تتطلب معرفة ودراية وخبرة من شاغلها، يحصل عليها إما عن طريق الاشتغال بها تحت إشراف لفترة زمنية محددة قبل السماح للعامل بشغلها بشكل حر، أو المرور بشكل من أشكال الاختبارات أو الامتحانات التي تقيس معرفة صاحب الحرفة.
وعند النظر إلى نشرات الأجور الصادرة عن وزارة العمل ومصلحة الإحصاءات ومؤسسة التأمينات الاجتماعية للعاملين في القطاع الخاص، نجد أن متوسط الأجور أقرب للحد الأدنى منها. الأمر الذي يدل على أن الاقتصاد السعودي رغم ضخامته ما زال يعتمد بشكل كبير على الوظائف الحرفية والمهنية. ولذلك فمن الضروري أن نعمل على إعادة تنظيم سوق العمل بوسائل تمكننا من ضبط الداخلين إليها. فيمكن لمؤسسات حكومية عدة مثل وزارة العمل والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني فرض الرخص المهنية، مثلما تفرضها هيئة التخصصات الصحية السعودية. فلا يتمكن أي منتسب للقطاع الصحي من العمل في أي منشأة حكومية كانت أو خاصة بدون رخصة مزاولة المهنة. وهي التي تؤكد أن حاملها قد تجاوز الحد الأدنى من المعرفة لمزاولة المهنة.
الفوائد المرجوة من تعميم هذا التنظيم على كافة المهن والحرف تتعدد بين مباشرة مثل رفع كفاءة المخرجات، وأخرى غير مباشرة، أهمها التحكم في مستوى العرض لخدمات حرفة ما. فنجد أنه من المفترض أن يتم ضبط المعروض من خدمات بعض المهن، مثل الحلاقة والمشاغل النسائية والمخابز والمطاعم عن طريق رخص البلديات، فلا يتم ترخيص محلات تزيد على حاجة منطقة ما. ولكن ذلك لم ينجح لكثرة التجاوزات والمخالفات. أما فيما يخص المهن الحرة الأخرى كالبناء والنجارة وأعمال الكهرباء، فإن الحبل متروك على الغارب، لدرجة أن عمال هذه المهن باتوا يتخذون من بطون الكباري أسواقا سوداء لتوفير خدماتهم. ولذلك فإن عملية الترخيص الإجباري للعمالة سيعمل على الحد من فائض العمالة ويعيد توجيهها لمكانها الصحيح.
سيعمل فرض الرخص المهنية بشكل مقنن في التحكم في الأسعار بشكل عام، فالعامل المرخص سيحصل على أجر أعلى لقاء خدمات أفضل، ولن يكون بحاجة إلى منافسة سيل من عمالة تفتقر إلى ادنى مقومات الكفاءة. كما ستساهم المعاهد المنوط بها إصدار رخص مزاولة المهنة في العمل على تطوير أعمال المهنة عن طريق استخدام تقنيات حديثة. فيتم الاستعاضة عن الطاقة البشرية بالمعدات والآليات التي سترفع من جودة مخرجات العمل وستختزل العديد من الوظائف. إدماننا على العمالة الرخيصة هو ما دفع سوق العمل لدينا نحو الفوضى الشاملة خصوصا في مستوياتها الدنيا.