مرت السنون وتعلق في الذاكرة مشاهد جميلة لمواقف ورجال مروا في مسرح الحياة.. يعبق بالإنسان أريجهم ويتذوق سيرتهم، من هؤلاء أحد جماعة المسجد الذي أممته قبل ٣٠ عاماً وهو مسجد العييري في مدينة بريدة وكنت في حينها في الثالث الثانوي بالمعهد العلمي، أممت المسجد فوجدت فيه جماعة من أطيب الناس مختلفي الأعمار، فبعضهم كأعمار والدي -رحمه الله- وبعضهم كإخوتي الكبار وبعضهم أترابي، ومن هؤلاء «دخيل الجفان» أبو علي، وسليمان الوشمي أبو ناصر، وعبدالله العبودي، وأخوه إبراهيم، وحمد التويجري، ومحمد الخضير، وإبراهيم السداح، وإبراهيم الطامي صاحب كتاب «قصص من الماضي» وأولاد هؤلاء، كانت ذكريات جميلة، لكن الشخص الذي تعمق في ذاكرة تربية النفس.. هو الشيخ سليمان بن ناصر الوشمي (رحمه الله) الكاتب الثقة، فهو الذي خلف حقيقة أسرة آل سيف في الكتابة والتدوين بمدينة بريدة وكان في عدة ألقاب عرف مثل (كاتب الجماعة) وأحياناً أمين سر الجماعة. كان ثقة، سمحاً، عاقلاً، حصيفاً، من رجالات بريدة وأهل عقيل الذين يسافرون ويتاجرون في الشام والعراق ومصر، كان لي معه مواقف لا تنسى، منها:
1. أولاً: تربيته بالتوجيه وإصلاح الخطأ، كنت أقرأ في سورة الأنبياء بصلاة العشاء، فقرأت: «لو أردنا أنْ نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنّا إنْ كنا فاعلين»، فقرأتها: «إنّا كنا فاعلين»، فلما سلمت وانصرف بعض الجماعة وعمره يقارب التسعين، أشار إلي فجلست أمامه قال هل ممكن تعيد علي الآية فأعدتها «إنا كنا» قال طيب ممكن تفتح المصحف ففتحته وقال دعنا نقرأه لكن ركز في الحروف فقرأتها معه بصوت مرتفع فإذْ هي: «إنْ كنا»، فقال فرق هنا: «إن كنا» حكاية عن قدرة الله لو أراد اتخاذ الولد لكن حاشا الله ذلك، بينما إذا قرأت ذلك: «إنا كنا» فهو تأكيد بأن الله سيتخذ ذلك وهو خلاف المعنى، يا الله على هذا الأسلوب الرائع من هذا الرجل التسعيني -رحمه الله- قبلت رأسه ومضيت شاكرا له وذاكرا.
2. ثانيا، وموقف آخر لما بدأت حرب الخليج الثانية عام ١٤١١هـ وأصاب الناس خوف وهلع أتيته قبيل مغرب الخميس فوجدته يتلو القرآن وبجواره صديقه وجاره في السكن والقرآن وروضة المسجد دخيل الجفان قلت له: ما رأيك؟ نقنت في صلاة المغرب، فالناس في هلع والقوات الضخمة شرقي البلاد، فأجابني بهدوء وعقل وإقناع: فعلا القنوت مهم وورد في السنة لكن ما رأيك يا ولدي تصبر حتى يقنت الجامع الكبير أو نشاور المشايخ مثل الشيخ صالح الخريصي -رحمه الله-، ولعلنا نصبر كم يوم، فلما كان من الغد قنت الشيخ محمد السعوي في صلاة الجمعة ، فأتيته فأخبرته عصراً فقال لي: الآن يا عبدالعزيز اقنت؛ فقنت، يا لحصافته ورقيه احتوى حماس الشاب مع تقديره لفكرته مع المتابعة والتوجيه الجميل.
3. والموقف الثالث كنت أصلي الفجر فأطيل قليلاً، في الركعة الأولى وجهان، والثانية وجه واحد، وفي احد الفجريات لما سلمت قام أحد الجماعة فتكلم بصوت مرتفع بأني أطيل الصلاة وهذا يتعبهم ويشق عليهم، وكان هذا الرجل من أوساط أعمار الجماعة، ثم بدأ يرتفع صوته، وأنا ملتزم بالصمت، حينها تدخل الشيخ سليمان، قائلا له هل انتهيت؟ قال نعم، قال جزى الله خيرا عبدالعزيز أنه صمت حتى تنتهي لكني أجيب عنه، أولا: من أكبر سنا أنا أم أنت؟ قال بل أنت، قال أنت مثل أولادي وأكبر منك بـ ٣٠ سنة وبودي أن يطيل الإمام التلاوة، ثانياً: السنة في الفجر الإطالة، ثالثاً: يا أخي إذا تعبت فاجلس مع أنك نشيط معافى، وأنا على كبر سني لم أجلس ولو اضطررت لجلست..فأغلق على الرجل. عشت مع هذا الرجل أوقاتا وصلوات ولحظات لا تنسى ورأيت له منامات طيبة كان يختم هو وصاحبه دخيل الجفان كل ثلاثة أيام وأحيانا لما أسلم عليه وهو يقرأ أرى عينيه محمرتين تذرفان الدمع من تأثرهما بكلام الله، كم أتمنى أن يخرج عنه سيرة متكاملة تحكي جوانب شخصيته الحكيمة المبدعة رحم الله أبا ناصر وأعلى منزلته وجمعنا الله وإياه ووالدي في الفردوس الأعلى.