يولد الانسان لأبوين يتعهدانه بالرعاية, فتنشأ «أسرة» صغيرة تضاف إلى غيرها من الأسر التي تشكل معا «عشيرة» تضاف إلى غيرها من العشائر التي تشكل معا «قبيلة» تضاف إلى غيرها من القبائل التي تتحدث نفس اللغة أو تنحدر من نفس الأصل العرقي لتشكل معا «أمة» أو جماعة قومية لها خصائص إثنية أو ثقافية أو حضارية مشتركة. ولأن العلاقات بين التكوينات الاجتماعية المختلفة كانت تقوم على «الغلبة» أو الغزو والتوسع, فقد ظهرت امبراطوريات شاسعة تحكمت فيها أسر أو قبائل أو أعراق بعينها وعاشت في كنفها أقوام وشعوب مختلفة متباينة الثقافات والحضارات, لكن لم تكن هناك حدود سياسية بالمعنى المتعارف عليه حاليا, وكان الترحال بين البشر متاحا بلا جوازات سفر أو بطاقات هوية.
وهذا هو السياق الذي ظهرت فيه الامبراطويات الفارسية والرومانية وغيرها, والذي استطاع الإسلام أن يقيم على أنقاضهما امبراطويات إسلامية متعاقبة يقودها «خليفة» مسلم, كان آخرها الامبراطوية العثمانية التي انهارت عقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى.
غير أن الأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم كانت قد بدأت تتغير كليا بعد ظهور «الدولة القومية» في أوروبا في منتصف القرن السابع عشر, والتي جاء ظهورها كمحصلة لصراع طويل بين السلطة «الروحية» أو الدينية, ممثلة في بابا الكنيسة الكاثوليكية, وبين السلطة «الزمنية» أو السياسية, ممثلة في الأمراء الاقطاعيين في ذلك الوقت, وهو الصراع الذي حسم في النهاية لصالح السلطة الزمنية.
ولأن نشأة «الدولة القومية» في أوروبا تواكب زمنيا مع ظاهرتين أوروبيتين أخريين, هما الثورة الصناعية من ناحية والكشوف الجغرافية من ناحية أخرى مكنا لهذه القارة من التمدد الاستعماري خارجها, وبالتالي من التحكم سياسيا في بقية قارات العالم وفي النظام العالمي ككل, كان لهما تأثيرات بعيدة المدى, استمرت حتى بعد انحسار الظاهرة الاستعمارية نفسها. فقد أصبحت «الدولة القومية» هي الأساس القانوني لتنظيم العلاقات السياسية على مستوى العالم, وأصبحت «الرأسمالية» هي الأساس الفكري لتنظيم العلاقات الاقتصادية على مستوى العالم.
الدولة القومية لا تقوم بالضرورة على اساس عرقي أو على اساس ديني وإنما على الرغبة المشتركة في العيش معا داخل «وطن» له حدود جغرافية محددة وتديره سلطة سياسية تتمتع بالسيادة داخل نطاق هذه الحدود. الدولة إذن هي «وطن» يغذي شعورا بالانتماء إليه لدى كل مواطن, ايا كان جنسه أو عرقه أو دينه. ولأن معظم الحدود السياسية القائمة حاليا بين الدول العربية رسمت خلال الحقبة الاستعمارية وعلى أنقاض الامبراطوية العثمانية التي جسدت فكرة «الخلافة» الإسلامية, فقد تداخلت المشاعر «الوطنية» بالمشاعر «القومية» و «الدينية» ودخل العالم العربي في متاهة لا يعلم إلا الله كيف يخرج منها.
يحلو للبعض إطلاق مصطلح «الوطن العربي» على مجموعة الدول الناطقة بالضاد, للتأكيد على ما يجمع بين شعوبها من قواسم مشتركة, بينما يصر البعض الآخر على استخدام مصطلح «العالم العربي», للتأكيد على ما يفرق بينها. ومن الواضح أن هذه المنطقة من العالم لا تشكل كيانا سياسيا أو عرقيا أو دينيا أو طائفيا أو اجتماعيا واحدا. فهي منطقة مقسمة سياسيا إلى 22 دولة مستقلة. صحيح أنها دول تضمها منظمة إقليمية واحدة تسمى «جامعة الدول العربية», لكن هذه «الجامعة» هي مجرد مظلة لكيانات منفصلة ولا تتمتع بإرادة مستقلة أو بسلطات وصلاحيات «فوق قطرية». وهي منطقة متنوعة الأعراق, تقطنها إلى جانب العرب الذين يشكلون أغلبية, ينتمي الملايين من سكانها إلى قوميات وأعراق أخرى, كالأكراد والتركمان والشركس والأرمن والأمازيغ والأفارقة وغيرهم. وهي منطقة متعددة الأديان, فإلى جانب المسلمين الذين يشكلون أغلبية ساحقة, يشكل المسيحيون نسبا لا يستهان بها من السكان في بعض الأقطار التي تضم أقليات دينية أخرى. وهي منطقة مليئة بالطوائف والملل والنحل. فالمسلمون فيها ينقسمون إلى سنة وشيعة ودروز وعلويين وغيرهم, والمسيحيون ينقسمون بدورهم إلى أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت وأقباط وموارنة..الخ. ولا تشكل المنطقة كيانا اجتماعيا متجانسا لأن مستوى التصنيع فيها ما زال محدودا ويتوزع سكانها بين بادية وحضر, ومزارعين ورعاة. ورغم سيادة النظام القبلي في بعض الدول إلا أن القبائل العربية كثيرا ما تكون متداخلة وعابرة للحدود السياسية والدينية والطائفية في أحيان كثيرة. ففي داخل القبيلة الواحدة يمكن أن يوجد السني والشيعي, بل المسلم والمسيحي.
ربما يفسر هذا التنوع الهائل بعض ابعاد الصراعات الحادة الجارية حاليا في هذه المنطقة, وهي صراعات تتخفى وراء عباءات عرقية أو دينية أو طائفية أو قبلية, رغم أنها في حقيقتها صراعات سياسية. ففي داخل كل دولة عربية تقريبا صراعات بين كل المكونات العرقية والطائفية والدينية: فالعرب في صراع مع غير العرب ومع بعضهم البعض, والمسلمون في صراع مع غير المسلمين ومع بعضهم البعض. وهناك مواجهات مسلحة بين دول عربية وأخرى عربية أو غير عربية. ولأنها صراعات تفاقمت في الآونة الأخيرة وبدأت تأخذ شكل حروب أهلية وإقليمية ودولية مدمرة وباهظة الكلفة إنسانيا وماديا, يعتقد البعض أن المنطقة العربية لن تعرف الاستقرار والهدوء بعد الآن إلا إذا أعيد رسم خرائطها وحدودها على أسس جديدة تختلف كليا عن تلك التي تم اعتمادها في اتفاقية «سايكس/ بيكو» عام 1917, حين كانت دول الاستعمار الأوروبي تقسم فيما بينها تركة امبراطوية عثمانية آيلة للسقوط. ومع التسليم بأن الحدود التي رسمتها هذه الاتفاقية لم تأخذ في اعتبارها سوى مصالح الدول الاستعمارية, رغم حرصها في الوقت نفسه على إرضاء بعض الأسر أو القبائل العربية المتعاونة مع بريطانيا إبان الحرب, إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بشكل تلقائي يدور حول الأسس التي يتعين الاستناد إليها لتصبح الحدود الجديدة قابلة لتحقيق الأمن والاستقرار وقادرة على استعادة الهدوء للمنطقة.
كانت اتفاقية «سايكس/ بيكو» قد أفرزت دولا وطنية وصفت أحيانا ب «القطرية» كما وصفت حدودها ب «المصطنعة» وتعرضت لهجوم ضار من جانب التيارين القومي والإسلامي على السواء.
فالقوميون العرب, والذين كانوا يتوقون في ذلك الوقت لتأسيس دولة عربية موحدة رأوا في الحدود الجديدة تكريسا للتجزئة وعقبة تحول دون تمكين الأمة العربية من إقامة دولة موحدة مثل باقي الأمم, والإسلاميون العرب, والذين لم ييأسوا من إمكانية استعادة الخلافة الإسلامية, ولو في طبعتها العربية (الأموية والعباسية), رأوا فيها أيضا حدودا مصطنعة وعائقا يحول دون تمكين المسلمين, والذين يشكلون من منظورهم أمة واحدة تقوم على وحدة العقيدة وليس العرق, من إقامة دولتهم الموحدة. هكذا حشرت الدولة «الوطنية» في العالم العربي بين مطرقة القوميين وسندان الإسلاميين, إلى أن وصلت الآن إلى حالة من الضعف والهوان تجعلها على وشك التحلل والانهيار.
غير أن الانصاف يفرض علينا الاعتراف بأن فشل الدولة الوطنية في العالم العربي لا يعود فقط إلى محاولات تجاوزها وتحطيمها من جانب التيارين القومي والإسلامي, لكل أسباب ودوافع أيديولوجية مختلفة, وإنما يعود أولا وقبل كل شيء إلى عجز النخب التي حكمت معظم الدول العربية عن تأسيس نظم سياسية تتسع لمشاركة كل التيارات الفكرية والسياسية وتكفل حقوق المواطنة للجميع, خاصة حقوق الأقليات. لذا يمكن القول ان الأقليات العرقية والدينية والطائفية ربما تكون قد لعبت الدور الأخطر في تقويض أسس الدولة الوطنية في العالم العربي, خاصة في الحالات التي حاولت فيها تلك الأقليات تغطية انتماءاتها الطائفية بعباءات ايديلوجية قومية أو إسلامية أوسع. وربما لا أكون مبالغا إن قلت إن معظم البؤر الساخنة حاليا في العالم العربي تعكس «انتفاضة أقليات» بأكثر مما تعكس ثورات شعوب, ولكن هل سيؤدي إعادة رسم الحدود في الوطن العربي على أسس طائفية أو عرقية إلى إعادة الاستقرار والأمن للمنطقة ككل, أو حتى للطوائف المنتفضة الآن والتي يتعين الاعتراف بأن بعضها عانى كثيرا من قبل؟ أشك كثيرا وأعتقد أن العكس ربما يكون هو الأصح.
إقامة دول جديدة في العالم العربي بأغلبيات شيعية أو علوية أو درزية أو مسيحية أو كردية لن يحل أي مشكلة وإنما سوف يؤدي فقط إلى استبدال أغلبية متحكمة بأخرى ربما تصبح أكثر تحكما ولن تتورع بدورها عن اضطهاد الأقليات التي تتحكم فيها, اما إقامة دويلة لكل طائفة أو دوليات طائفية نقية وخالية من الأقليات فلن يكون له سوى معنى واحد وهو دخول المنطقة في عمليات تطهير عرقي متبادل, وبالتالي اتساع نطاق الحروب الأهلية في المنطقة واشتداد أوراها وامتدادها مكانيا إلى مناطق جديدة وزمنيا إلى ما لا نهاية. وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن فسوف تنزلق المنطقة حتما إلى هذا المصير, بوعي أو دون وعي.