تعتبر الصين من أوائل البلدان التي دخل إليها الإسلام. وبعد أن مضى على انتشاره فيها أكثر من 1300 سنة، أصبح عقيدة مشتركة لدى عشر أقليات قومية هي: هوي والويغور والقازاق والقرغيز والتتار والأزبيك والطاجيك ودونغشيانغ وسالار وباوآن. ويبلغ عدد أبناء هذه القوميات المسلمة 18 مليون نسمة. ومعظمهم يتوزعون في نينغشيا وشينجيانغ وقانشو وتشينغهاي بكثافة، بينما البقية الباقية منهم ينتشرون في مدن وقرى سائر المقاطعات والبلدات والمناطق الذاتية الحكم بما فيها مقاطعة تايوان وهونغ كونغ وماكاو.
وفي بحر أكثر من ألف سنة بنى المسلمون الصينيون من مختلف القوميات كثيرا من المساجد الكبيرة والصغيرة. وتفيدنا الإحصاءات غير الكاملة بان عدد المساجد في الصين يبلغ الآن أكثر من 30 ألف مسجد، علما بأن بعضها ذو تاريخ عريق، وبعضها رائع الهندسة، وبعضها متألق بضياء التبادلات الثقافية بين الصين وبلاد العرب. وهذه المساجد ليست مجرد مراكز دينية للجموع الغفيرة من المسلمين، بل هي كذلك من فرائد الآثار التاريخية في الصين.
قيل إن أول مسجد ظهر إلى حيز الوجود في الصين كان في عهد أسرة تانغ (618-907م)، وهو مسجد هوايشينغ (الحنين إلى النبي) بمدينة قوانغتشو. وهناك رواية تقول انه شيد على يد الصحابي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- الذي جاء إلى الصين لنشر الإسلام. ولكن المقطوع به أنه يصعب جدا تحديد تاريخ بنائه ومعرفة بانيه لعدم توافر الأدلة الدامغة على صحة هذه الرواية.
كان الصينيون في أواخر عهد أسرة تانغ (618-907م) وأوائل أسرة سونغ (960-1279م) يسمون المسجد «لي تانغ» (قاعة الاجتماع)، ثم أطلقوا عليه اسم «لي باي تانغ» (قاعة الصلاة) أو «سي تانغ» (المعبد). وفي أواسط القرن الثالث عشر أخذ المسلمون الصينيون في تسمية المسجد «تشينغ تشن سي» (متعبد الصفاء والحق). وقد صارت هذه التسمية شائعة الاستعمال بعد مضي قرنين من ظهورها.. يشار بكلمة «تشينغ» (الصفاء). بينما يشار بكلمة «تشن» (الحق) إلى أن «الله أحد، الله صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد»، أما كلمة «سي» (المعبد) فهي كلمة مستعارة من البوذيين الصينيين. وهذه التسمية تختلف طبعا عن كلمة «المسجد» إلى حد بعيد.
ان المسجد هو معبد مفضل للعابدين بمعناه الضيق، ومركز لنشاطات المسلمين الدينية بمعناه الواسع. ذلك أنه مكان للدعوة الإسلامية وموقع لائق للسائلين والمتعلمين، إلى جانب كونه مكانا للصلاة. ولكن لمساجد الصين مهام أخرى. فهي لا تفتح أبوابها لمجرد استقبال المصلين والمستمعين إلى المواعظ الحسنة، بل تشرف أيضا على عقود الزواج ومراسم الجنائز والإصلاح بين المتخاصمين ومساعدة المحتاجين وتنظيم الألعاب الرياضية وسط المسلمين.. الخ. وقد رأى بعض المؤرخين أن تعدد مهام المساجد في الصين يعود إلى زمن قديم، بدليل أن مسجد هوايشينغ في مدينة قوانغتشو كان مركزا لنشاطات المسلمين الدينية ومجالا لنشاطاتهم التجارية في آن واحد. وإن مسجد تشينغجينغ في مدينة تشيوانتشو «مدينة الزيتون» (وهو مسجد قديم آخر في الصين) لم يكتف «بشراء الأراضي والمباني لمنفعة عامة المسلمين» بل أسس مقبرة عامة للجاليات الإسلامية في الأيام الأولى من بنائه. ويشير ذلك الى ان نشاطات هذين المسجدين القديمين لم تكن قط مقصورة على الأمور الدينية. وحيث ان مساجد الصين متعددة المهام، فإن علاقة المسلمين المحليين بها أوثق من المعتاد. حتى ليقال «إن مثل المسلمين الذين فقدوا المساجد كمثل الأسماك التي فارقت المياه».
الأشكال المعمارية لمساجد الصين
في فجر الإسلام كانت مباني المساجد بسيطة إلى أبعد الحدود نتيجة لسوء الظروف المادية آنذاك. وقد ازداد المسلمون اهتماما بتحسين بناء المساجد مع انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فظهر إلى حيز الوجود عدد من الجوامع ذات الشهرة العالمية، مثل الجامع الأموي في دمشق، وجامع القرويين بفاس، وجامع غرناطة بأسبانيا، والجامع السليماني باسطنبول .. إلخ. وفي مجرى بناء المساجد اهتدى المعماريون المسلمون إلى أسلوب معماري إسلامي مهيب جميل بعد أن استلهموا بعض مزايا المباني الرومية والفارسية. ولقد ترك هذا الأسلوب المعماري تأثيراته في مسجد هوايشنغ بمدينة قوانغتشو ومسجد تشينغجينغ بمدينة تشيوانتشو (التي كان العرب يسمونها مدينة الزيتون) وغيرها من المساجد القديمة، وكذلك في المساجد الصينية التي بنيت في وقت متأخر مثل جامع عيد كاه بمدينة كاشغر. وكما ترك تأثيراته في الفن المعماري التقليدي الصيني. ويتمثل ذلك فيما يلي:
1- لقد كانت معظم الباغودات الطوبية في الصين قبل دخول الإسلام مربعة أو مسدسة أو مثمنة الأركان، وتخلو من السلالم في داخلها. غير أن المنارة الطوبية لمسجد هوايشنغ تظهر على شكل اسطوانة. وتتكون جدرانها من طبقين، وبداخلها سلمان لولبيان متقابلان يبلغ عدد درجات كليهما 154 درجة. ويمكن رؤية نافذة على جدرانها بعد عدة درجات، وهذا التركيب الرائع للمنارة أثر في الباغودات المبنية في الصين فيما بعد، بدليل أن أغلبيتها صارت لها سلالم في داخلها.
2- عرفت بلاد العرب بكفاءتها في هندسة البناء الحجري منذ القدم. فلا غرو أن يكون مسجد تشينغجينغ المبني بالحجارة تماما آية في الروعة من حيث هندسة بنائه. فجدران قاعة الصلاة والبوابة مثلا قد بنيت كلها بالاستفادة من البلاط المستطيل الشكل في صف والبلاط المستطيل والمربع على التناوب في صف آخر.. الأمر الذي جعل الجدران المبنية على هذا النحو تبدو في غاية الجمال. وبفضل ظهور مسجد تشينغجينغ في مدينة تشيوانتشو انتقلت هندسة البناء الحجري العربية إلى الصين.
3- لقد كانت أشكال الأبواب والنوافذ في الصين قبل دخول الإسلام إليها في أواسط القرن السابع رتيبة نسبيا لتكونها من الألواح الخشبية المستقيمة ليس غير. أما مثيلاتها في المباني الإسلامية الطراز فهي متنوعة الأشكال زاهية الألوان. خذ بوابة مسجد تشينغجينغ مثلا: تتربع هذه البوابة على قطعة مستطيلة من الأرض. وتنقسم إلى جزءين، يسمى أحدهما «المدخل الخارجي» المفتوح، والآخر «المدخل الداخلي» المغلق. ويتكونان من أربعة عقود خوخية الشكل. وتزين العقدين الأول والثاني نقوش جميلة من الصخور الخضراء، ويتباعد العقدان الثالث والرابع أحدهما عن الآخر لوجود ممر بينهما. وهذا النوع من البوابات الإسلامية الطراز المتداخلة العقود قد ترك أثره في الفن المعماري الصيني.
4- إن المباني الإسلامية الطراز مقببة غالبا. فما من أحد رأى مسجد عيد كاه بمدينة كاشغر ومسجد ناقوان بمدينة ينتشوان إلا عرف أنهما من المباني الإسلامية فورا. وبعد دخول الإسلام إلى الصين ازداد عدد المباني المقببة فيها أكثر فأكثر، مما أدى إلى تنويع أشكال المباني الصينية.
5- تتجلى روعة المباني الإسلامية الطراز في مرونتها في تقسيم الفراغات وتوزيع الأجزاء بوجه عام، وفي زخرفتها المعمارية بالرسوم والنقوش بوجه خاص. من ذلك أن التشكيلات الجصية والدهانات الملونة والنحوت الخشبية والمركبات المعمارية المصنوعة من الشرائح الخشبية الصغيرة الأحجام والنقوش الطوبية المتنوعة على هذا النوع من المباني لا تتميز بأشكالها المشوقة الرائعة وألوانها الزاهية فحسب، بل تتميز أيضا بأساليب تعبيرية مختلقة ورسوم ملونة بما يبدو فيها من زخارف فريدة إلى جانب انسجام بعض هذه الزخارف مع بعضها الآخر. فلا نبالغ إذا قلنا ان الكثير من زخارفها جدير بأن يصنف في عداد الصناعات الفنية الرائعة والمهارات الفريدة التي يرجع إليها المعماريون والفنانون في الإبداع الفني والبحوث العلمية.
بالإضافة إلى ذلك فإن مباني المساجد الصينية القديمة المميزة بالأسلوب المعماري الإسلامي تتوزع على نحو غير متناسق خلافا للمباني التقليدية الصينية. والدليل على ذلك أن مآذن هذه المساجد غالبا ما تنتصب على يمين قاعات الصلاة بدلا من أن تقع معها على خط مستقيم. وبوابة مسجد تشينغجينغ تقوم على الجانب الشرقي من جداره الجنوبي. فلا يمكن للمرء أن يصل إلى قاعة الصلاة إلا بعد أن ينثني إلى الشمال سيرى في ممر مؤد إلى هناك. معنى ذلك أن بوابة المسجد لا تواجه قاعة الصلاة. وكان توزيع المباني على هذا الشكل غريبا بالنسبة إلى الصينيين.
وجملة القول ان الفن المعماري الإسلامي كان مثار الإعجاب وسط الصينيين بميزته الخاصة. وإن دخوله إلى الصين قدم برهانا على التبادل الثقافي الصيني العربي عبر التاريخ، كما أسهم بقسط معين في تنمية الفن المعماري الصيني أيضا. وهذا هو سر إدراج الحكومات الشعبية من مختلف المستويات الكثير من المباني الإسلامية الطراز في قائمة أهم الآثار المحمية. ولذلك فقد سلمت أعداد منها من التدمير .
ومنذ أواسط القرن الثالث عشر على وجه التقريب بدئ ببناء المساجد في الصين اعتمادا على الأسلوب الصيني التقليدي. وذلك للانسجام مع الظروف الصينية بطبيعة الحال. وزد على ذلك أن أغراض المساجد في الصين ازدادت مع مرور الأيام. ولذلك فإن المساجد على مثال نظيرتها خارج الصين تماما لا تتفق مع حاجة المسلمين الصينيين الواقعية.
من المعروف أن المساجد لا يسمح بزخرفتها برسوم ونقوش من الحيوانات إلا أن المساجد الصينية الطراز كانت عادة ما تزخرف بنقوش من التنين والعنقاء والأسد والنمر باستثناء أجزاء قاعات الصلاة الداخلية. وكان هناك مسلمون امتنعوا عن استعمال هذا النوع من الزخارف وقت بنائهم المساجد لعلمهم أن ذلك يخالف أحكام الدين. ولكن المسلمين في أغلبية المناطق كانوا يرون أن ظهور صور الحيوانات والطيور في المساجد لا حرج فيه، ما داموا يوقنون بالله تعالى ويعبدونه عبادة خالصة مستندين في ذلك إلى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام «إنما الأعمال بالنيات»، وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت أعداد من المساجد لا تخلو من الصبغات الكونفوشية. خذ مثلا ما ورد في رقيم مسجد تشينغشيو بمدينة شيآن بقلم وانغ هونغ: «ولد النبي الغربي (يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد كونفوشيوس، ويتباعد موطنه عن موطنه، ويختلف عهده عن عهده، ولغته عن لغته، ولكن تعاليم النبي الغربي تتفق مع تعاليم كونفوشيس. ويعزى السبب في ذلك إلى أن قلبيهما من نمط واحد». معنى ذلك أن الكونفوشية هي مقياس صحة الإسلام. إن هذه المقولة خاطئة تماما حسب وجهة النظر الإسلامية، ذلك أن قيمة الإسلام لا تتوقف على موافقته الكونفوشية أو عدم موافقته إياها. وليس هذا فحسب، فهناك عدد من المساجد فيها ألواح كتبت عليها تعاليم كونفوشية مثل «ارضخوا للقضاء والقدر، وأطيعوا أولي الأمر وتعاليم النبي (يقصد به كونفوشيس)» و «إياك والنظر إلى القبائح والاستماع إلى الأباطيل والتكلم بالفضائح وممارستها» .. الخ. وأما في عهد أسرة تشينغ (1644-1911م) فقد اضطرت المساجد الصينية إلى احتواء ألواح كتب عليها «عاش الإمبراطور الحالي، عاش، عاش!» ولذلك فقد رأى عدد من المستشرقين أن الإسلام في الصين قد «تكنفش». وفي الحقيقة أن هذا الاستنتاج عارٍ عن الصحة إذ أن الصبغات التي فرضت على المساجد آنذاك كانت نتيجة ضغوط سياسية ليس إلا.
ولما انتصرت ثورة 1911 برئاسة الدكتور صون يات صن أخذ الاسلام ينتشر وسط المسلمين الصينيين بجهود الحاج البستاني (لقب الإمام ما وان فو الذي ولد في قرية قويان ¨C بمعنى «البستان». وحين أدى فريضة الحج التصق به لقب «الحاج البستاني»)، ومن هنا زالت الصبغات الكونفوشية عن المساجد إلى حد كبير، وطرأت تغييرات كبرى على ملامحها.
وأول ما اختفى من المساجد بين عشية وضحاها ألواح الهتاف بحياة الإمبراطور. أما الألواح المميزة بالصبغات الكونفوشية في المساجد فقد أزيلت من مواقعها على الأغلب. وفي الوقت ذاته بادر المسلمون في المناطق المتأثرة تأثرا عميقا بأفكار الحاج البستاني الداعية إلى «اتباع الكتاب والسنة ونبذ العادات السخيفة» إلى إزالة صور الحيوانات والطيور من المساجد أو نقلها إلى أماكن أخرى. ولكن معظم المسلمين لم يحذوا حذوهم في هذا الأمر رغبة منهم في الحفاظ على كمال مباني المساجد. ومع ذلك فإن المساجد التي بنيت بعد ثورة 1911 قليلا ما ترى فيها صور الحيوانات والطيور. ومن أجل إبراز ميزات الإسلام أخذت علامة الهلال تزداد ظهورا على مباني المساجد. وجدير بالذكر أن الكثير من المساجد المبنية حديثا صارت خليطا من الأسلوب المعماري الصيني ونظيره الإسلامي. وكان مسجد تيانتشياو ببكين ومسجد تونغتشين بنينغشيا من هذا القبيل. وبعد استعمال الإسمنت في البناء المعماري على نطاق واسع لم تعد المباني العامة في الصين تشيد على الأسلوب المعماري الصيني التقليدي على وجه العموم. وفي ظل ذلك شهدت الصين عددا كبيرا من المساجد الإسمنتية التركيب والمميزة بالأسلوب المعماري الإسلامي. ومن أشهرها جامع نانقوان في مدينة ينتشوان ومسجد شاديان الغربي بمقاطعة يوننان ومسجد جينتشو بمقاطعة لياونينغ ومسجد تابيه بمقاطعة تايوان ومسجد جيولونغ في هونغ كونغ.
مسجد « شيان» تم بناؤه في القرن السابع في عهد إمبراطورية تانغ