من توفيق الله للعبد أن يؤدِّي ما طُلب منه، وأنْ يُفوِّض أَمْرَه لله فيما ضَمِنَه الله له، فالأمر كما قال إبراهيم الخوَّاص: (العِلْمُ كلُّه في كلمتين: لا تتكلَّف ما كُفِيْتَ، ولا تُضيِّع ما استُكْفِيت) فقد تكفَّل الله لعبادِه برزْقِهم، وبتقدير آجالهم، وبتكليفهم بعدد من التكاليف التي تعبَّدهم بها، فليس للعبد أن يَنشغل بما تكفَّل الله به، فَمِن عَمَى البصيرة أنْ ينشغلُ العبدُ بالخوف من الموت، أو الخوف من نقصان الرزق، فإنَّه سبحانه قد رزقك من يوم كنت نطفةً في بطن أمِّك، لا تملك من أمرك شيئاً، فأمَّن لك أنسبَ الطعام إليك، وهيّأ لك في بطن أمِّك مسكناً تُقيم فيه، هو أشبه ما يكون بغرفة العناية الفائقة، نُسمِّيه الرَّحِم، وجعل سبحانه جدار رَحِم الأمِّ كالإسفنج، ليمتصَّ أيَّ صدمةٍ قد تصيب بطن الأم، واستمرَّت هذه التغذية لك والعناية بك لتسعة أشهرٍ، وأنت لا تملك من أمرك شيئاً، حتَّى إذا اكتمل نموُّك وصِرْتَ مهيَّأ للخروج إلى عالَمٍ جديدٍ عليك، هيَّأ الله لك مَن يستقبلك، ثم قذفَ محبَّةً عظيمةً تغمر قلب والديك، لم يكونا يشعران بها قبل خروجك إلى الدنيا، بل بثَّ شفقةً عظيمةً في قلوب عموم الخلْق تجاه الأطفال، كما قال شوقي:
(أحْبب الطفلَ وإنْ لم يَكُ لكْ
* * * إنما الطفلُ على الارض مَلَكْ)
(هو لُطفُ الله لو تَعْلَمُهُ * * *
رحم الله امرَءاً يرحمه)
ويستمرُّ حفظُ الله لك ورعايته بك من ساعة ولادتك، عبر رعاية والديك، وعبر تَهْيئة بيئة اجتماعية ترعاك، مِن إخوة وأخوات منهم من هو أصغر منك، ومنهم من هو أكبر، ومن أقارب وأصدقاء صغارٍ وكبار، ومِن جَدٍّ وجدَّة، وأعمام وعمَّات، وأخوال وخالات، كلُّ هؤلاء الفُرَقاء يصنعون بيئة تربوية تحضنك، فتتقلَّب في هذه البيئة بسعادةٍ لا تعدلها أيُّ سعادة، إلى أن تبلغ مبلغ الرجال، فمن عجيب الأمر أنَّك إذا بلغت هذا السِّن تصير هدفاً لوسوسة الشيطان، فإذا بالعبد يصير مهتمّاً بطلب الرزق، ظاناً ان ربه قد يغفل عن توفير الرزق المضمون، ويَفُوتُه أن يعلم أن الرزق قد ضمنه اللهُ له كما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) فالأرزاق مقدَّرة، كما كانت الآجال كذلك مقدَّرة، فيَنسَى العبدُ أنَّ قُوَى النَّفس المنبعثة منها، كالغضب والهمِّ والقلق والاكتئاب، لا تخرق أسوار الأقدار، فلا هي تجلبُ نعمةً، ولا هي تدفع بلاءً، فالتدبيرُ من أمر الله، كما قال تعالى: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ) فهل يصحُّ شرعا أو عقلا أن ترَى نعم مولاك تتوالى عليك حين كنت لا تملك من أمرك شيئا، ثم إذا ملَّكك الله قدرةً على بذل الأسباب تنشغلُ عن بذلها باتِّهام ربِّك، فيصيبك الهمُّ والغمُّ! إن هذا الانشغال هو ما عبَّر عنه الإمام العالم العامل أبو الفضل أحمد بن عطاء الله السَّكندريُّ بقوله: (اجتهادك فيما ضُمن لك، وتقصيرُك فيما طلب منك، دليلٌ على انطماس البصيرة منك) فالواجب على العبد حين يبلغ، ويصير محلا للتكليف، أن يبذل الأسباب من غير اعتمادٍ عليها، يؤدِّي ما فرضه الله عليه امتثالا لأمره تعالى، ثم يفوِّض إليه سبحانه ما ليس للعبد دخْلٌ فيه، وهو الأجل والرزق، فهذا هو التَّوكُّل على الله في تحصيل المقصود، وهذا هو حسنُ الظَّنِّ بالله، كما قال محمد الأندلسي: (مَثَلُ الرزق الذي تطلُبُه * * * مَثَلُ الظِّل الذي يمشي معك)
(أنت لا تدركُهُ متَّبعا * * * فإذا ما مِلْتَ عنه اتَّبعَكْ)
ومِثْلُه قول أبي العلاء المعري: (يا طالب الرزق الهنيِّ بقوَّة ٍ* * * هيهاتَ أنتَ بباطل مشغوفُ)
(رَعَتْ الأسودُ بقوَّةٍ جِيَفَ الفَلا * * * ورعَى الذُّبابُ الشَّهْدَ وَهْوَ ضعيفُ)
ولمحمد بن طاهر السِّجسْتاني بيتان بديعان في هذا المعنى:
(الجوعُ يُدفَعُ بالرَّغيف اليابسِ * * * فَعَلامَ أُكثرُ حَسْرتي وَوَساوسي) (والموتُ أَنصفَ حينَ ساوى حكمُهُ * * * بين الخليفةِ والفقيرِ البائسِ) وهكذا إذا تحقَّق العبد بهذا المعنى حصَّل ثلاث فوائد، أوَّلُها راحةُ النَّفس والرِّضا بما قَسَمه الله، مهما صُدَّ عن مُراده ومقصوده، والثانيةُ سُموُّ النفس وعُلوُّ همَّتها عن التَّشوُّف لما عند الخلق، وإنما يكون ذلك بالنَّظر إلى ما عند الله، والثالثة سكون نفسه عن الاضطراب، فلا النِّعمةُ تطغيها، ولا البلاءُ يورثها الجزع، فهذا ما يُحصِّلُه مَن لم يَتكلَّف ما كُفِيَ، ولم يُضَيِّع ما استُكفي، رزقنا الله الفهم عنه.