بيرني ساندرز، يساريّ عتيق، يُجاهر بـاشتراكيته في عقر دار الرأسمالية، لا يأبه بتوحشها، ولا يلقي بالاً لتقاليدها، فيناصب "باروناتها" العداء تارة، وفي أخرى يقض مضاجع لوبياتها بـ "ثورية" غير معهودة في "مراثون" شاق لـ "الديموقراطيين"، الذين التحق بهم حديثاً حالماً بالرئاسة الأمريكية. ساندرز، المولود (عام 1941) لأبٍ يهودي فرّ من "محرقة هتلر"، لتقوده رحلة الهرب من الموت إلى بروكلين، المدينة "النيويوركية" ذات "الكُنس اليهودية"، والمعروفة بأعراقها، لينشأ الابن ويترعرع وسط عائلة متواضعة، لا يُعرف عنها شيء، فـ "الاشتراكي الكهل" يكتفي بالقول: " أنا من أنا"، ويمضي إلى غايته.
يهوديّ؟، نعم، واحتفل بطقس البلوغ الديني (بار ميتسفاه) في كنيس، وهو تقليد يهودي لمن بلغ الرشد، ما يشي بأن طفولته وشبابه المبكر كانا في كنف عائلة يهودية ملتزمة، لكن الغريب أن الرجل "علمانيّ"، فلدى سؤاله عمّا يؤمن به؟، وما هي روحانياته؟، يسارع إلى القول: "لست متديناً منتظماً..، روحانياتي هي أننا جميعاً في نفس القارب، وأعتقد ليس إيجابياً أن نؤمن، بوصفنا بشرا ، بإمكانية تجاهل الآخر"، وهو ما قد يفسر "تجاهل اللوبي اليهودي" له.
ساندرز تلقى دروسه، الأساسية والثانوية، في مدارس بروكلين، وانتقل إلى شيكاغو لينهي فيها مرحلة البكالوريوس عام 1964، ويتخصص في "علم النفس"، لتنتهي هنا علاقته بالحياة الأكاديمية، وينتقل إلى "الحياة الأوسع"، في ولاية فيرمنت، عبر "خرم إبرة"، متأثراً بـ "فقر حال" عايشه والعائلة، و"قروض تعليمية" قيدته، شأنه شأن غالبية الشباب الأمريكي، الذي تقيده تلك القروض في وقت مبكر من حياته، وتستمر معه طويلاً، وتترافق مع أعمال بسيطة كنادل في مقهى، أو بائع في متجر.
حياة ساندرز الأوسع ليست بتلك السِعة التي ترافق حياة الطامحين بالرئاسة الأمريكية، حتى إن الرجل، الذي ظلّ مغموراً لوقت قريب، يسعى جاهداً إلى إنارة أجزاء من البدايات في سبيل صناعة صورته لدى الناخب، وبينما يواري أجزاء أخرى بعيداً عن الناظرين.
يلف ساندرز تفاصيل حياته، من مولده حتى عام 1962، بالغموض، ويتحدث عنها باقتضاب مفرط في صفحته الإلكترونية، ولا يذكر منها إلا منزل العائلة في بروكلين، ويقول، إنه "كان مُستَأجراً"، وكأنه يقصد بث رسالة عن "مُعاناة شخصية"، هي في حقيقتها جزء من منظومة معاناة غالبية الشعب الأمريكي، سابقاً والآن، وهي معاناة امتلاك المسكن. يقفز ساندرز من "المنزل المُستَأجَر" إلى يناير/كانون ثاني 1962، ليتحدث عن نضاله في "مقاومة التمييز العنصري"، إذ تأثر على ما يبدو بخطابات مارتن لوثر كينغ، وقاد طلبة جامعة شيكاغو، بوصفه مسؤولاً عن "مجلس المساواة العرقية" (Congress of Racial Equality)، في عدة اعتصامات، ما يشي بـ "يسارية" مبكرة.
يقدم "الكهل"، فهو قد يكون أكبر الرؤساء الأمريكيين سناً، بداياته السياسية كناشط طلابي، ويقول إنه زار واشنطن العاصمة، لأول مرة في أغسطس/ آب 1963، على رأس حافلة تُقِل نشطاء طلابيين، كانت غايتها الاستماع إلى خطاب مارتن لوثر كينج "لدي حُلم"، منهياً بهذا الحديث عن الـ 23 عاماً الأولى من عمره، بيد أن هذه السنوات رافقته فيما عايش لاحقاً.
حياته العملية بدأت في ولاية فيرمنت، فقد امتهن بادئ الأمر "النِجارة"، وانتقل منها إلى صناعة "الأفلام الوثائقية"، دون مزيد من التفاصيل، ودون أن يكشف عن أية أعمال أخرى، وما إذا كان قد عمِل بإجازة "علم النفس" التي حصل عليها أم لا.
على ما يبدو، ساندرز لم يكن مُخَططاً بارعاً لحياته، فالخط الزمني لها يشي بـ "قدرية" مُفرطة، ولا يَخلُ من إخفاقات تتوارى خلف صمت الرجل، أو محاولته تقديمها (الإخفاقات) كجهد مبذول دون نتائج تذكر، حتى عام 1981، الذي فاز فيه كـ "مرشح مستقل" برئاسة بلدية برلنغتون، أكبر مدن ولاية فيرمونت، ليُعاد انتخابه لدورة ثانية. يفاخر "اليساري الكهل" برئاسته لبلدية برلنغتون، التي خط فيها أول مشروع إسكاني تعاوني (يُدعى: Burlington Community Land Trust)، يُقدم السكن بأسعار زهيدة للأمريكيين، وهو المشروع الذي صار أنموذجاً يحتذى في الولايات والمدن الأخرى. "الإسكان التعاوني" فكرة ذات جذور لدى ساندرز، فأولاً: الرجل مسكون بمنزل العائلة المُستَأجر، الذي يبدو أن أجرته أثقلت موازنة العائلة فيما مضى من حياته؛ وثانياً: لدى "الكهل" تجربة خاصة في "المجتمعات التعاونية"، تشكلت لدى إقامته لنحو ثلاثة أشهر في أحد "الكيبوتسات" بـ "إسرائيل".
"الكيبوتسات"، في اللغة العربية، هي الجمع لمفردة "كيبوتس"، وفي "العبرية" هي "كيبوتسيم"، وأصلها مستمدة من "الثقافة اليهودية"، وتخص "المجتمع الصهيوني" دون سِواه، وتعني: تجمعا سكنيا تعاونيا استيطانيا، مستقلا عن الإدارة المحلية، تعود جذوره إلى "الغيتو اليهودي"، يعيش سكانه ويعملون فيه سـوياً وفق قانون خاص يمتثلون له، ويساهم بشكل فعّال في التجنيد السياسي والاقتصادي والثقافي والديني وصولاً إلى التأهيل العصبوي والعسكري، ويُعتبر الأساس الذي أسند "الحركة الصهيونية" لدى احتلال فلسطين.
علاقة ساندرز بـ "الكيبوتس" ليست مفهومة، والروايات حولها متضاربة؛ الرواية الأولى نقلت فيها صحيفة "الواشنطن بوست" عن مستوطن، يُدعى ألبرت إيلي (79 عاما)، قوله: إن "رجلاً اسمه "برنارد" تطوّع (عام 1957) في كيبوتس شار هامكيم"، الواقع شمال "إسرائيل"، دون أن يذكر ما إذا كان "برنارد" هو ذاته "بيرني ساندرز"، بيد أن الاسمين لم يردا في كشوفات أسماء المتطوعين، ما يبقي الأمر مجهولاً تماماً. الرواية الثانية، هي لصحفي "إسرائيلي" يدعى يوسي ميلمان، كان قد نشرها في مقال بعنوان "الاشتراكي الأول"، عام 1990، وتحدث فيه عن حملة ساندرز الانتخابية، وأشار إلى "تطوّع" ساندرز في "كيبوتس شار هامكيم"، لكن عام 1963، وحلّ ضيفاً على "حركة الحرس الشباب"، وهي حركة شبابية صهيونية.
أما الرواية الثالثة، التي تبدو أكثر دقة، فتنقلها صحيفة "الواشنطن بوست" عن شقيق ساندرز الأكبر، الذي يؤكد أن شقيقه تطوّع في "الكيبوتس" بعد عام 1963، وليس قبل ذلك، ويقول: تزوج ساندرز من زوجته "الأولى" ديبرا شيلنغ، وهي "يهودية أرثوذكسية" من بالتيمور، بعد تخرجه من الجامعة، وزارا بريطانيا في سبتمبر/ أيلول 1964، ضمن رحلة لقضاء "شهر العسل"، قادتهما إلى "إسرائيل" أواخر عام 1964، أو أوائل 1965، حيث قضيا في أحد "الكيبوتسات" نحو ثلاثة أشهر. لا شك أن الرجل قد تأثر فكره ونهجه بعوامل عديدة، من بينها تجربة "الكيبوتس"، وما تعنيه قيم مجتمعه، التي تقوم في أحد أوجهها على "مبادئ الاشتراكية"، الظاهرة لديه بوضوح، فيما وجهها الآخر ليس أقل قبحاً من "الصهيونية"، بكل ما تعنيه الكلمة. في نوفمبر/تشرين ثاني 1990 استطاع ساندرز الوصول إلى الكونجرس الأمريكي، كفائز أوحد عن ولاية فيرمنت، ليمكث فيه كنائب 16 عاماً، ومن ثم ينتخب عضواً في مجلس الشيوخ حتى الآن. الفترة بين 1990 وحتى قبيل إعلان عزمه خوض الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي تعتبر الحياة السياسية الفعلية للسيناتور ساندرز، وهي فترة زمنية طويلة نسبياً استطاعت أن تصقل رؤية الرجل، في أبعادها الثلاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بشكل جلي، لكن على نطاق جغرافي محدود بولاية فيرمنت، وليس على مستوى أميركا.
أفكار ورؤية ساندرز، التي وجدت لها جمهوراً واسعاً في أوساط الشباب والمهاجرين، الذين يميلون بطبعهم للتصورات والأفكار المثالية أو تلك غير الخاضعة للمألوف من القيم، وتركزت بشكل أساسي في الشأن الأمريكي الداخلي، رغم تسجيله العديد من المواقف في السياسة الخارجية، إلا أنها ظلت محدودة إلى حد كبير.
في أحياء وأزقة واشنطن العاصمة، باعتبارها مدينة الغرباء الأمريكيين وغيرهم، يمكن للزائر أن يتلمس المحرّك الفعلي للناس من بين ما يصدر عنهم، عبر انحيازهم للقضية "الداخلية" دون "الخارجية"، بما يحيل "اليومي والمُعاش"، الذي يُكبِّل سلوكهم بما يفرضه من أعباء لا تنتهي، إلى أولوية مطلقة، لكنهم في الوقت نفسه يخضعون بشكل "وحشيّ" لتأثير الماكينات الإعلامية الضخمة، التي لا تتوقف عن تبني وجهات نظر "نخبوية"، قادرة على تزوير وعي "الطبقة الوسطى" وإدراكها لمصالحها. ساندرز، في مجمل خطواته، لا يتوقف عن الحديث لصالح "الطبقة الوسطى"، مناوئاً "النخبة المُهيمنة"، التي يرى أنها لم تَعد تُلائِم أمريكا، ويقول صراحة: لا يمكن القبول بسيطرة 1% من الأمريكيين على 90% من الاقتصاد، وهو ما دفعه، في مجلسي النواب والشيوخ، إلى القتال بروحية "اليساري الثوري" على مدى سنوات عضويته لصالح تلك الطبقة. خلال عضويته في الكونجرس، بشقيه النواب والشيوخ، تبنى ساندرز عدة مواقف، فعلى صعيد داخلي وجّه الرجل انتقادات حادة لـ "نخبة وول ستريت"، المهيمنة على الثروة، وهاجم بلا هوادة مجموعات الضغط واللوبيات الكبرى، التي تسيطر على رجال الحكم في البلاد، ولم يتوان عن فضح تواطؤ رجال السياسة والمال، وكذلك سعى إلى تدعيم القيم الأمريكية، وانتقد محاولات إفسادها عبر ما يُعرف بـ "قانون باتريوت"، وعمل على تقويض نفوذ شركات الأدوية وسيطرتها على أسعار الدواء في البلاد، وتوسيع مظلة الرعاية الطبية المجانية، وسعى إلى تعديلات قانونية تعيد قانون الضريبة إلى القانون التصاعدي، الذي يحدد العبء الضريبي وفق سُلّم الدخل، وغيرها من القضايا كزواج المثليين والتسريح من العمل، التي تعتبر محلية بحتة. على الصعيد الخارجي، سجّل ساندرز العديد من المواقف السياسية، من بينها: رفض تفويض جورج بوش الأب عام 1991 باستخدام القوة العسكرية في حرب الخليج، وكذلك رفض استخدام القوة ضد العراق عام 2002، لكنه دَعَمَ الحرب ضدّ صربيا عام 1999، واعتبر غزو أفغانستان عام 2001 واجباً أمريكياً، ولغايات إجرائية (تتعلق بعدم أخذ الإذن من الكونجرس) انتقد قصف أمريكا لليبيا إبان الثورة ضد القذافي، وظلّ مماشياً للاعتداءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وحديثاً دعم قصف طيران التحالف لمناطق سيطرة "تنظيم داعش" في العراق وسورية؛ وفيما يتعلق بخصوم أمريكا الكبار، كالصين وروسيا، فقد عارض بصخب السياسات الصينية، دعى إلى التصدي للرئيس الروسي فلاديميير بوتين، ودعم تدخل بلاده في أوكرانيا لإسقاط الحكومة الموالية لموسكو.
تنسجم مواقف ساندرز، إلى حد بعيد، بين وصفه عضواً في الكونجرس، وبين دوره الجديد في الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأمريكية، وإن كانت بشكل أكثر دبلوماسية ووضوحاً، خاصة في ظل حملة الانتقادات التي يخوضها خصومه الديمقراطيون، سواء باتهامه بـ "عدم الخبرة والكفاءة السياسية" أو لـ "تطرفه اليساري أو الاشتراكي"، فهو لا يتورّع في أحاديثه عن "ثورة" ينوي إحداثها.
ساندرز، بوصفه مرشحاً مفترضاً للرئاسة الأمريكية، عليه أن يخوض غمار معركتين:
المعركة الأولى: الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي، الذي انتسب إليه قبل نحو عام فقط، وفيها يتوجب عليه إقناع الناخبين الديمقراطيين بأنه الأقوى والأقدر على مواجهة الجمهوريين في "المعركة الثانية"، ما يستدعي تجنيد طيف واسع من "الفاعلين الكبار" المؤثرين في الانتخابات، الذين يناصبهم العداء في خطابه، وكذلك تحطيم فرص منافسته الأكثر خبرة، هيلاري كلينتون، التي خبرت الرئاسة في عدة محطات من حياتها، سواء حين كانت السيدة الأولى لثماني سنوات، أو لجهة تجربتها الأولى في الترشح للرئاسة، وإضافة لخبرتها الواسعة في الشأن الخارجي وشؤون البيت الأبيض. المعركة الثانية: بعد الفوز بترشيح الديمقراطيين على الرجل إقناع الأمريكيين بأنه الأقدر على التعبير عن مصالحهم، الفئوية والجمعية، بما يشمل ذلك إقناع ممولي الحملات الانتخابية، خاصة في ظل توقعات بمواجهة شرسة مع الجمهوريين بعد الانسحاب الأمريكي، الذي خاضه الرئيس الحالي، من الملفات الدولية، وإخفاقه جوهرياً في إحداث فرق حقيقي في يوميات المواطن الأمريكي. يأخذ خصوم ساندرز عليه عدم درايته العميقة بملفات السياسة الخارجية الأمريكية، وفي هذا تقول الوزيرة السابقة مادلين أولبرايت: البلاد بحاجة لرئيس جاهز للتعامل مع المشكلات، فالوضع الراهن معقد، وواشنطن لا تستطيع تحمُل رئيس سيبدأ التعلُم..، أشعر بالقلق تجاه عدم خبرته؛ ومن الزاوية ذاتها يهاجمه خصومه، وهو ما يرد عليه بباب كامل عنوانه "الحرب والسلام".
"الحرب والسلام"، هو باب مقتضب لمواقف ساندرز السياسية، أدرجه على واجهته الإلكترونية ضمن 21 باباً تُشكل المحاور الرئيسية لبرنامجه الانتخابي، وهي في غالبيتها تُعنى بالشأن الداخلي. يعترف "اليساري الكهل"، في باب "الحرب والسلام"، الذي يحل في المرتبة 19 بين أبواب برنامجه، بأن أمريكا "تعيش في عالم صعب وخطير"، و"لا توجد حلول سهلة أو سحرية"، لذا فإن منصب الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة يدفعنا إلى "الدفاع عن الوطن والشعب، والمصالح الاستراتيجية الحيوية، ولكني سأفعل ذلك بطريقة مسؤولة"، فـ "أمريكا يجب أن تدافع عن الحرية، في الداخل والخارج، ولكن يجب علينا البحث عن حلول دبلوماسية قبل اللجوء إلى العمل العسكري"، فـ "القوة دائماً خيار، ولكن الحرب هي الملاذ الأخير، وليس الأول". يقدم ساندرز رؤية "مثالية"، أو "أخلاقية"، للولايات المتحدة ودورها العالمي، فأمريكا - التي يريدها - "ليست شرطياً للعالم"، و"لا يمكن قياس عظمتها بعدد الحروب، بل بعدد حل النزاعات الدولية بطريقة سلمية". ويدرج ساندرز العديد من قضايا السياسة الخارجية في باب "الحرب والسلام"، تعكس أولوياته في الرئاسة، وهي: أولاً: النشاط العسكري الخارجي، وهنا يرى ضرورة التوقف عن الأعمال العسكرية المنفردة، وإيجاد مقاربات مع أطراف الصراع في مختلف بقاع العالم، بما يدفع التسويات السلمية إلى واجهة السياسة الخارجية، دون إسقاط خيار القوة، والحفاظ على المؤسسة العسكرية دون إفراط أو تفريط، وبما لا يثقل المواطن الأمريكي بالمغامرات العسكرية الخارجية.
ثانياً: منع إيران من الحصول على السلاح النووي، وبما يقوض قدرتها على تهديد "إسرائيل"، والحيلولة دون انفلات سباق التسلح النووي من عِقاله في المنطقة، وبالتالي، فإن الاتفاق النووي يشكل "أفضل فرصة" الآن، ولكنه "ليس مثالياً"، وفي حال مخالفة طهران لبنوده فيمكن "إعادة فرض عقوبات عليها"، فيما تظل "الخيارات كافة مطروحة على الطاولة". ثالثاً: الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ويراه وقوداً لصراعات أخرى في الشرق الأوسط، ما يستدعي دعم "حل الدولتين"، الذي يعترف بـ "حق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن، وحق الفلسطينيين في وطن يتحكمون فيه بمستقبلهم السياسي والاقتصادي"، ما يستدعي دوراً قيادياً أمريكياً وتنازلات كبيرة من الجانبين، وإطلاق مفاوضات ثنائية "حسنة النية"، تتناول جميع القضايا العالق ة، بما يتضمن ذلك اعترافاً فلسطينياً صريحاً بـ "حق إسرائيل في الوجود"، في مقابل رفع تل أبيب للحصار عن قطاع غزة، ووقف الاستيطان، وامتثال جميع الأطراف لمبادئ القانون الإنساني الدولي.
رابعاً: الإرهاب، ويُعرّفه بـ "من أراد إلحاق الأذى بنا"، ويرى بوجوب مكافحة الظاهرة بلا هوادة، لكن ضمن مقاربة جديدة، لا تتضمن العمل العسكري المنفرد، والحرب الاستباقية، ويعتبر دولة تنظيم داعش التهديد الإرهابي الأخطر، الذي يستدعي معالجة جذوره بدلا من محاربته الفوقية بالضربات العسكرية؛ ويشير إلى "الذئاب المنفردة"، الذين يشكلون نقاطا متقدمة لـ "الفكر الإرهابي" في أمريكا، ما يستدعي "يقظة دائمة" في الداخل، دون المساس بقيم المجتمع الأمريكي.
خامساً: التعاون وتوسيع النفوذ العالمي عبر تشجيع "التجارة العادلة"، والتصدي لتغير المناخ العالمي، وتوفير الإغاثة الإنسانية والمساعدة الاقتصادية، والدفاع عن سيادة القانون، وتعزيز حقوق الإنسان، وزيادة التعاون الدولي، وإعادة تحديد دور أمريكا في الاقتصاد العالمي، ومنع اندلاع صراع دولي جنبا إلى جنب مع حلفائنا في جميع أنحاء العالم، والتصدي لمشاكل اتفاقيات التجارة الدولية، وسياسات الطاقة، والتغيّر المناخي.
سادساً: الحفاظ عل القيم الأمريكية، وعدم المساس بالحقوق الدستورية والمدنية بذرائع وهمية، وعدم السمام بمرور قانون حرية الولايات المتحدة الأمريكية، والتمسك بالرقابة القانونية لأداء وكالة الأمن القومي، دون إضعاف عملها في تجنيب الأمريكيين المخاطر، ووقف "نهج التعذيب" الذي استخدم في التحقيقات خارج الولايات المتحدة، بما يشمل ذلك إغلاق مركز الاعتقال في خليج غوانتانامو. مقاربات ساندرز في السياسة الخارجية لا تعكس إدراكاً عميقاً للدولة الأمريكية، وارتباطاتها التكتيكية والإستراتيجية في الخارج، وكذلك لا تنظر بجدية إلى "الأوزان الحقيقية" للفاعلين في الداخل الأمريكي، الذين لا شك توقفوا طويلاً عند العناوين العريضة التي يتبناها الرجل في الشأن الداخلي، من قَبيل "عدم المساواة في الدخل والثروة"، و"مجانية التعليم"، و"الديون الحرة"، و"تحرير السياسة والديمقراطية من سطوة المال"، و"خلق الوظائف برواتب لائقة"، و"رفع متوسط الأجر إلى 15.5 دولار/الساعة"، و"الرعاية الصحية وتخفيض أسعار العقاقير الطبية"، و"إصلاح وول ستريت"، وغيرها من العنواين المقلقة لنخبة المال والأعمال، رغم ما تُشكله من دغدغة محببة لآمال الأمريكيين.
"الخطاب الشعبوي"، ذو النكهة "الاشتراكية" أو "اليسارية المُفرطة"، يدفع ساندرز بقوة في الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، فقد اكتسح محطة ولاية نيوهامشير بـ 58% من الأصوات في مقابل 40% لمنافسته الأقوى هيلاري كلينتون، بينما لا أحد يعرف حتى الآن إلى أي مدى سيَظل الرجل متفوقاً بين الديمقراطيين؟، وهل سيشغل اشتراكي مقعد رئيس الدولة الأكبر في العالم؟.
يُقال في المثل الشعبي: "حسابات السرايا" تخالف "حسابات القرايا"، وفي العادة لـ "السرايا" الكلمة العليا، لكنها قد تسقط أمام صخب "القرايا" وثورتها على السائد، ففي الانتخابات الرئاسية، التي قادت أوباما إلى البيت الأبيض، استخدم أصحاب البشرة السمراء كلمة السر، وحملوا أوباما إلى المكتب البيضوي، وهو ذاته الذي تسعى إليه كلينتون وتنشده من النساء، لتكون أول رئيسة لأمريكا، وهنا يتجدد السؤال: هل استدل ساندرز على كلمة السر ليحمله الفقراء والمُعدمين والمهاجرين وأبناء الطبقة الوسطى ليتربع على العرش الأمريكي؟، هذا ما ستكشفه أيام 2016.