هل حقا مات "صاحب ولد عبدالحي"؟!
الرجل الذي تخيلت في طفولتي أنه لا يموت، وتشبعت بسماع حكايا عراكه مرارا مع الموت.
هناك من يؤكد أنه مات بالفعل، ويدعي أنه سمع إمام المسجد ذات يوم كثير الغبار يدعو المصلين إلى تجهيزه والصلاة عليه، لكن ثمة من يشكك في هذه الرواية وينعتها بأنها مجرد أماني ألقاها الشيطان في روع أناس حانقين عليه. ويؤكد بأنه رأى "صاحب" أكثر من مرة في أماكن متفرقة.
وما لا أصدقه حقا، ما يروج له بأن "صاحب" مات بمرض الاكتئاب!
يقال إنه كف عن تسليط لسانه على من يعرف ومن لا يعرف، وفقد فجأة شهيته للحياة!
يبدو لي بأن شخصا مثل "صاحب" لا يمكن أن يقهره مرض نفسي، وهو من صارع بذراعيه النحيلتين أمواج البحر فتيا عندما كان يعمل بحارا على إحدى السفن، وسافر إلى شرق الأرض وغربها، وهزم الأسقام التي نالت من جسده المعاق.
"صاحب" كان مفتونا بالحياة، نهم بالاغتراف من ملذاتها، لو كان سيصاب بالاكتئاب يوما لكان أصيب به من قبل في واحدة من محطات حياته الحافلة، لماذا أصيب به الآن، وحبس نفسه في غرفة وامتنع عن الطعام والشراب، حتى ذبل ومات كما يشاع؟
مؤكد بأن صاحب لم يكن قديسا رغم ما أسدى للعديدين من مواقف خيرة، لكن هل كان شيطانا كما يصفه البعض؟
في صغره استنقذه بأعجوبة من موت مؤكد مقص الخياطة لجارتهم، بعد أن سارعت الجارة إلى تمزيق ثوبه بمقصها. النار كانت تشتعل في أطراف الثوب المصفر وتمكنت من التهام أجزاء من الجسد الغض.
ما زالت بعض الجارات المسنات يتذكرن "صاحب" ولد عبدالحي الذي حمل "سراجه" صغيرة بحجم كف اليد مملوء خزانها بالكاز وأخذ يطوح بها يمنة ويسرة في الزقاق الطيني المسقوف والمعتم، كان "صاحب" يلهو، يضحك، يتقافز بين الجارات وقت الضحى، حيث جلست النسوة المتفاوتات في العمر، يتبادلن الأخبار على عتبات الدور منشغلات بخياطة الملابس، غزل الصوف، تنقية الأرز، تقطيع البصل، طحن الحبوب. بعد أن غادر الرجال للعمل.
جار طيب لهم كان يعمل نجارا في إحدى ورش شركة أرامكو تمكن من إلحاق "صاحب" بمستشفى الشركة للعلاج، لكن الوقت كان قد فات، فالنار قد أتت على أجزاء كبيرة من جسده، وتركت وشمها الأبدي عليه، وظلت إمكانيات الطب المحدودة في ذلك الزمن من منتصف الخمسينات عاجزة عن محو كل ما لحق به من تشوهات.
غادر "صاحب" ولد عبدالحي المستشفى بعد شهرين حاملا تشوهات دائمة، والجيد في الأمر أن هذه التشوهات لم تطل سوى الأجزاء غير الظاهرة من جسده، مبقية على وجهه الأسمر الوسيم سليما.
لم يفكر أحد إن كانت تلك التقرحات والندوب تركت أثرها فيما بعد على روح "صاحب" أم لا، لأنه لم يكن يأتي فيما بعد على ذكرها مطلقا، وتواطأ الناس معه على عدم الإشارة إليها. وساعدهم على ذلك أن ثوبه وسرواله الداخلي كانا يخفيانها عن أنظارهم تماما.
الحرب العالمية الثانية للتو لملمت عتادها. فيما انتشرت العديد من الأمراض التي فتكت بالكثيرين خاصة الأطفال." صاحب" يعتبر من إحدى الأسر المحظوظة بنجاة الأبناء، كانت أمه تتباهى أمام زوجة حميها بأن الله يحبها أكثر منها، لذا يهبها كل هذا العدد المتنامي من الأبناء الذين لم تختطف منهم المقبرة أحدا في زمن كانت المرأة يمكن أن تنجب ثلاثة عشر طفلا ورغم ذلك لا يتبقى منهم أحد فدفان الأطفال في موسم القيظ لا يرتاح.
"صاحب" الذي نجا من كل ذلك، لا يمكنني أن أصدق أنه مات بالاكتئاب في منتصف العمر وهو الشخص الذي كان متدفقا بالحياة.
لكن إن لم يكن قد مات بالفعل كما يقال أين يمكن أن يكون قد اختفى؟!