«توجد مدينة صغيرة في تونس تسمى بن قردان لو كانت قرب الفلوجة لحررت العراق»، هكذا وصف القيادي المقتول في تنظيم القاعدة ابو مصعب الزرقاوي مدينة بن قردان التي شهدت مواجهات دامية أمس الأول أسقطت 55 قتيلا عند محاولة 50 متطرفا إعلان المدينة إمارة إسلامية، وكان الزرقاوي يشير في مقطع الفيديو الذي تحدث فيه إلى العدد الكبير من المتطرفين الذين يسكنون المدينة أو يخرجون منها إلى العراق للانضمام للتنظيم المتطرف.
وتقع مدينة بن قردان الصغيرة في أقصى الجنوب الشرقي التونسي على بعد 30 كلم من الحدود الليبية و7 كيلومترات عن البحر المتوسط أو تحديدا بحيرة البيبان التي تطل على البحر وتمتاز بالجودة العالية لأسماكها، ويعرف سكان المدينة الأصليين بـ"التوازين" وهي قبيلة تنتمي إلى القبيلة الأم "ورغمة" تسكن المنطقة إلى جانب 6 قبائل أخرى أبرزها "الجليدات" و"الحوايا" و"الحرارزة".
وأصبحت هذه المدينة التي يفوق عدد سكانها 100 ألف نسمة بقليل مصدراً رئيساً لتخريج المقاتلين الذين يتجهون إلى المشرق العربي منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وتعززت سمعتها مع بدء الثورات العربية، وخاصة بعد تتالي الأخبار عن المقاتلين التونسيين في سوريا، وعرض بعضهم على القنوات السورية بعد أن تم إلقاء القبض عليهم.
لا تبدو المدينة وأنت تدخلها مختلفة عن باقي مدن وقرى الجنوب التونسي المعروفة بكونها محافظة، حيث لم تصلها الكثير من تأثيرات الحضارة الغربية كما هو الحال في مدن الساحل التونسي أو في شمال البلاد.
تلاحظ ذلك وأنت ترى النساء المنتقبات يتجولن في شوارع المدينة المصفرة، وتلاحظ ذلك أيضاً عندما يغمرك شعور بغربتك عن المكان يعززه أن المدينة معزولة جغرافياً بالصحراء التي تحيط بها ونمطياً بطريقة عيش أهلها الذين تبدو عليهم البساطة في كل شيء.
أما أعلى ما في بن قردان هي صوامع الجوامع، إذ تعدّ بن قردان من أكثر المدن التونسية نقصاً في التنمية، ولا توجد بها بناية مرتفعة واحدة ولولا قربها من ليبيا لما وجد الشباب فيها مورداً للرزق، إذ امتهن أغلبهم التجارة بين تونس وليبيا، ولعل ذلك ما دفع المدينة إلى تخريج حوالي 1000 متطرف -كرقم معلن- اتجهوا للقتال في المشرق العربي.
ولعل هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل من الدواعش يختارون المدينة كنقطة بداية أو "الإمارة النواة" لتواجدهم المحتمل في الاراضي التونسية فكان أمس الأول مسرحا لأعنف العمليات الارهابية التي ضربت تونس.
وتمثل بن قردان حالة فريدة، فتغلغل الفكر الداعشي فيها مرده اقتصادي واجتماعي وسياسي وتنموي، فاقتصاديا: تفتقر المدينة الى كل مظاهر النمو والترف فهي تعيش على حافة الحدود والفقر فلا وجود لاستثمارات أو مصانع أو فرص عمل أو أي حضور فعلي للدولة باستثناء الأمني والعسكري منه.
وسياسيا عانت المدينة منذ استقلال تونس وحتى نهاية حكم بن علي بل وحتى الآن من التهميش السياسي وعدم التمثيل نيابيا أو سياسيا فلم يسجل أي مشروع قانون أو أي إجراء لفك عزلة المدينة وإعادة دمجها داخل المشروع السياسي التونسي بل على العكس زادت عزلتها يوما بعد يوم.
وتنمويا بن قردان هي المعتمدية الوحيدة في تونس التي تعيش من التهريب والتجارة الموازية من وإلى ليبيا، فالجميع فيها وخاصة الشباب عملهم الوحيد هو التهريب بين البلدين وهو الامر الذي يصعب عملية حماية الحدود من خطر الإرهابيين، فالتداخل بين التهريب والإرهاب في المنطقة عضوي وهو ما اتضح في العملية الاخيرة، حيث كشفت تقارير امنية ان اكثر من مخزن سلاح وجد في بن قردان تم تهريبه بطرق غير شرعية للبلاد عن طريق مهربين، حيث تم تخزينه في منازل إلى أن برزت الحاجة لاستعماله البارحة.
واجتماعيا فلا وجود لمشهد اجتماعي او ثقافي في المدينة سوى تجمع الشباب المحتل في المقاهي وتنعدم النوادي الثقافية والسينما، كما أنها تفتقر لأماكن الحوار الشبابي وتبادل الافكار، وهو ما يسهل استقطاب الشباب وتجنيدهم لصالح الجماعات الارهابية، وهو الذي تم ايضا في العملية الاخيرة، حيث كشفت الداخلية التونسية ان معظم المشاركين في العملية البارحة هم من ابناء المنطقة باستثناء بعض العناصر القيادية التي دخلت تهريبا من مدينة مصراطة الليبية التي تجاور مدينة بن قردان.
إن المتأمل لهذه الحاضنة الشعبية للفكر المتطرف في بن قردان قد يجزم ان مصير المدينة هو للأسوأ، ولكن المدهش في مواجهات أمس الأول هو أن مواطني المدينة نزلوا لمواجهة المتطرفين بكل قوة حتى اضطرت وزارة الداخلية إلى مناشدتهم عدم الدخول في مواجهات مع الإرهابيين وترك الأمر لرجال الأمن، ما يثبت ان بن قردان وسكانها متشبثون بالحياة رغم أن البعض يحاول دون كلل سحبها وشبابها نحو شباك الموت.