سعى العاهل الأردني إلى توفير "حواضن عشائرية" لجهود الدولة في مواجهة التطرف، وضمن خطة واسعة تستهدف جذوره في المؤسستين الدينية والتعليمية في البلاد، إلى جانب محاربة ما يظهر منه فوق السطح.
الملك عبدالله الثاني، لدى لقائه قيادات عشائرية وقبلية أردنية من محافظة الكرك، كشف عن إستراتيجية لمواجهة التطرف، تبدأ من جذوره الفكرية، التي قال إنها "تستدعي التصدي لها في مختلف المنابر والمساجد والمؤسسات التعليمية".
الحديث الملكي يعكس استجابة لموقف التيار العلماني في الأردن، الذي سعى طويلاً إلى تنبيه السلطات للمضامين التي تقدمها المنابر الدينية والتعليمية، رغم "السيطرة الفعلية" للسلطات الحكومية على الاثنتين، وهو ما تقر به مختلف مكونات المجتمع.
على مدى سنوات، وتحديداً مع توقيع الأردن وإسرائيل معاهدة وادي عربة عام 1994، أحكمت السلطات الحكومية قبضتها على منابر المساجد، بما يمنع توظيفها في خدمة "الإسلام السياسي"، وإبقائها في حدود "الخطاب الديني"، الباحث في الأوامر والنواهي الدينية؛ وكذلك الأمر بالنسبة لمكونات العملية التربوية، على مستويي المناهج والمعلمين، التي ظلت على الدوام عرضة للتغيير والتبديل.
أحداث إربد
يدرك الملك عبدالله الثاني أن مجابهة التطرف تستدعي وجود حواضن شعبية تدافع عنها، خاصة حين يتعلق الأمر بالدين الإسلامي في مجتمع يوصف بـ "المحافظة"، وهو ما وفرته "أحداث إربد"، التي استهدفت "خلايا نائمة" أو "خلايا متأهبة" تابعة لـ "تنظيم داعش".
يقول العاهل الأردني إن "الأردن خط أحمر ضد الإرهاب والتطرف، ولا مكان هنا للإرهابيين"، إنها "حربنا في الأردن، وحرب كل الدول العربية والإسلامية ضد الخوارج، وهي ليست في سوريا والعراق فحسب، وإنما في ليبيا وشرق وغرب إفريقيا وآسيا، وهي حرب عالمية".
في بداية مشاركة الأردن بهجمات "التحالف الدولي" ضد "تنظيم داعش"، قاد قطاع واسع من الأردنيين معارضة شرسة لأية أدوار عسكرية أردنية خارج الحدود، وفي مواجهة عبارة إنها "حربنا"، التي خطتها السلطات الحكومية لتبرير المشاركة، قال المعارضون "ليست حربنا"، وظل الانقسام سيد الموقف إلى منتصف الأسبوع الماضي، الذي دفع "داعش" إلى عقر الأردن، ليحدث الانقلاب في الموقف الشعبي.
كلمات العاهل الأردني مع شيوخ قبائل وعشائر الكرك، وهي محافظة جنوبية، لم يلزمها أي عناء لإيصال الفكرة، فمختلف مكونات الشعب الأردني بعد "عملية إربد" باتت تتحسس الخطر الداهم، ومستعدة للقبول بأي شيء لمواجهته.
اختيار الملك الأردني لعشائر محافظة الكرك لم يكن صدفة، رغم أنه في البداية أثار الاستغراب، خاصة أن "شهيد عملية اربد"، النقيب راشد الزيود، ينتسب إلى قبيلة بني حسن، التي تستوطن مضاربها في محافظة المفرق (شرقي الأردن).
توجه الملك إلى المحافظة الجنوبية لم يقصد بها "الكرك" بذاتها، بل محافظة معان المتاخمة، التي شهدت على مدار عدة سنوات مضت أحداثاً تعكس النفوذ الذي يحظى به "تنظيم داعش" في أوساط "التيار المتشدد"، وهو ما برز في عدة مظاهر تحدت السلطات الحكومية بشكل سافر. "التيار المتشدد" في محافظة معان، التي تشكل جغرافياً نحو ثلث مساحة الأردن، يدين بالولاء لـ "تنظيم داعش"، وسبق أن رفع "رايات داعش" على المباني الحكومية وعند المدخل الرئيسي للمحافظة، فضلاً عن دخوله مواجهات عنيفة، بالأسلحة الرشاشة، مع القوات الحكومية. يقول الملك، خلال اللقاء، إن "التصدي للتطرف والإرهاب يستدعي مشاركة المواطن"، وهو ما يعكس رغبة ملكية في إحالة الأردن إلى "ورشة"، غايتها "الخلاص المبكر" من "التطرف"، خاصة في ظل "التفويض الشعبي الواسع"، الذي تشكل في أعقاب "عملية اربد".
اللحظات الصادمة
يقول د. باسم الطويسي، وهو مدير معهد الإعلام الأردني، إن "اللحظات الصادمة" تشكل "الاختبار للتوافق الوطني" الأردني، معتبراً أن "تفجيرات فنادق عمان (2005) وحادثة الشهيد الطيار معاذ الكساسبة (2014) وعملية إربد (2016)، خلقت إجماعاً وتوافقاً وطنياً قوياً، سياسياً واجتماعياً".
الحوادث الثلاثة، التي أشار إليها الطويسي، ارتبطت بشكل مباشر بتنظيمي "القاعدة" و"داعش"، وكانت سبباً مباشراً في توفير الدعم الشعبي للخطوات الحكومية، سواء داخلياً أو إقليمياً، فضلاً عما شكلته من "عقبات" أمام "تمدد" التنظيمين، و"تسهيلات" لمواجهتيهما، على المستوى الأردني.
ويؤكد عضو مجلس النواب الأردني جميل النمري، وهو ناشط في تطوير الحياة الديمقراطية في الأردن، أن "عملية اربد ستردع كثيرين، وتقلل قدرة تنظيم داعش وأمثاله على الاستقطاب، وستزعزع الثقة الداخلية بينهم".
ويضيف "العملية ستحفز الأردنيين على مزيد من اليقظة، ليكون كل مواطن شريكاً ورقيباً في خدمة أمن بلده وأهله"، وهذا ما تسعى إليه – فعلياً – الدوائر الأمنية في الدولة، إذ عممت دائرة المخابرات العامة، وهي الجهاز الأمني الأقوى أردنياً، أرقام هواتف للإبلاغ عما "يثير الشبهات"، في خطوة نادرة محلياً. الداخل الأردني ظل رهيناً، طوال عقود، للأحداث الإقليمية، وهو ما يؤكده النائب النمري بالقول "لا يمكن عزل أمن الأردن عن أمن المنطقة، وطالما النزاع مستمر فإن مصدر الخطر مستمر وسيتجدد، وبقدر ما يتراجع ويندحر الإرهاب في سورية، يمكن أن نطمئن إلى طي صفحة التطرف والإرهاب في بلدنا".
ثلاث بؤر للإرهاب
ثمة ثلاث بؤر أساسية للإرهاب والتطرف في الأردن، اربد شمالاً والزرقاء في الوسط ومعان جنوباً، وهي ثلاث محافظات شهدت تمدداً واضحاً للفكر المتطرف والتنظيمات المتشددة على المستوى الأردني، وكذلك شهدت مواجهة مفتوحة مع المؤسسة الأمنية.
كلمات العاهل الأردني تعكس نية المؤسسة الرسمية، بمختلف مستوياتها، على إطلاق مواجهة مفتوحة ضد التطرف محلياً، بما يقي الأردن في المستقبل القريب من أية ارتدادات لتطور الصراع الدائر في سورية، وهي مواجهة بدأت فعلياً بـ "الضربة الاستباقية" التي وجّهت لـ "داعش" في اربد.