يواجه لبنان اليوم سلسلة لا تنتهي من الازمات الداخلية والخارجية وفي مقدمها أسوأ الأزمات في تاريخه وهي عدم انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية رمز الدولة والبلاد.
إنها رابع أزمة فراغ منذ الاستقلال والثانية في عهد الطائف الا انها تختلف عن سابقاتها في الظروف والأسباب والأهداف، فالأزمة الحالية تقود البلاد نحو نفق مظلم يرسخ عدم الاحترام للقوانين والدستور وعمل المؤسسات التي تعد الركيزة الأولى للنظام اللبناني.
18 رئيساً للجمهورية
تعاقب على رئاسة الجمهورية اللبنانية منذ تأسيسها عام 1926، ثمانية عشر رئيسا للجمهوريّة، ستة منهم في عهد الانتداب واثنا عشر رئيسا بعد الاستقلال. خمسة عشر رئيسا من الموارنة واثنان من الارثوذكس (شارل دبّاس وبترو طراد) وواحد بروتستانتي (ألفرد نقّاش). وعرف لبنان تجديداً واحداً لولاية الرئيس بشارة الخوري، إلا أنّه استقال بعد مرور ثلاث سنوات على بدايتها. كما عرف تمديدين لولاية كل من الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحّود.
4 أزمات رئاسية في الجمهورية
تعد أزمة الفراغ الرئاسية الحالية هي أسوأ أزمات الفراغ وهي رابع أزمة فراغ في تاريخ لبنان منذ الاستقلال حتى الآن، كما أنها الأزمة الثانية منذ عهد الطائف وتبرز أهم هذه الأزمات كما يلي:
1- في العام 1952، برزت معارضة قوية طالبت الرئيس بشارة الخوري بالاستقالة بعد أن انتخب لولاية ثانية. رفض قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب أن يتورط الجيش في هذه المواجهة السياسية وأن يتدخل لصالح أو ضد أي من الأطراف المتنازعة. عندما أجبر بشارة الخوري على الاستقالة، عيّن اللواء شهاب رئيساً لحكومة انتقالية مهمتها تنظيم وتأمين انتخاب رئيس جديد. لم يعر شهاب آذاناً مصغية للمساعي التي عُرضت عليه لتبوّؤ سدّة الرئاسة، وذلك بسبب قناعته بوجوب إبقاء الجيش بعيداً عن السياسة؛ وعمد فورا على تنفيذ مهمته الطارئة فبعد أربعة أيام، انتخب كميل شمعون خلفاً لبشارة الخوري.
2- حكومة عسكرية شكلت بالدقائق الأخيرة من عهد الرئيس أمين الجميّل بتاريخ 22 سبتمبر 1988 برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون وتضم الضباط الستة الأعضاء بالمجلس العسكري.
3- بعد ستة أشهر على انتهاء عهد الرئيس السابق اميل لحود انتخب في 25 مايو 2008 ميشال سليمان رئيساً للجمهورية الذي كان قائداً للجيش منذ 21 ديسمبر 1998.
4- منذ 25 مايو 2014 ويشهد قصر بعبدا الرئاسي شغوراً رئاسياً وتعيش البلاد أسوأ وأصعب فراغ رئاسي، وذلك لمدة عامين تقريبا.
أسباب الخوف من الفراغ الرئاسي
تتمحور معظم المخاوف القائمة اليوم من احتمال تعذُّر إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها حول أمرين أساسيين، هما:
أولًا، المخاوف التاريخية التي عبّر عنها المسيحيون وخصوصاً الموارنة بشان انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء بحسب المادة 62 من الدستور، والتي تنصّ على أنه "في حال خلو سدة الرئاسة، تناط السلطة الإجرائية وكالة بمجلس الوزراء"، كما حصل في عهد الرئيس بشارة الخوري في العام 1952 وفي عهد الرئيس أمين الجميل في العام 1988.
ثانياً، هنالك خوف من تغيير صيغة النظام السياسي الحالي الذي يقوم على المناصفة أولا، وعلى إعطاء الموارنة والمسيحيين مناصبَ أساسية في البلاد، أهمها بعد رئاسة الجمهورية قيادة الجيش. لهذا نجد ان هنالك خوفا كبيرا لدى عدد من المسيحيين، من أن يكون الرئيس السابق ميشال سليمان هو آخر رئيس مسيحي ماروني في تاريخ الجمهورية اللبنانية كونه عرفا وليس دستورا.
حكم الترويكا.. عرف لا دستور!
بالعودة الى تاريخ لبنان الحديث ومنذ ظهور دولة ما بعد 1943، تم تحديد سياسة وطنية إلى حد كبير من قبل مجموعة محدودة نسبياً من القيادات الإقليمية والطائفية، وهي الميثاق الوطني عام 1943، والذي يعد اتفاقا غير مكتوب يثبت الأسس السياسية للبنان الحديث، حيث تم تقسيم السلطة السياسية بناء على نظام طائفي على أساس تعداد سكان أجري عام 1932 وتم تقسيم المقاعد في البرلمان على أساس أن يمنح المسيحيون 6 مقاعد في البرلمان مقابل 5 للمسلمين.
وحتى عام 1990 عندما تغيرت النسبة إلى المناصفة في مقاعد مجلس النواب بين المسلمين والمسيحيين تم تخصيص مناصب في البيروقراطية الحكومية على أساس مماثل ونص الاتفاق على التوزيع الطائفي للمراكز الثلاثة الأولى في حكم "الترويكا" وزعت على النحو التالي:
الرئيس، وهو مسيحي ماروني، رئيس مجلس النواب وهو مسلم شيعي، رئيس مجلس الوزراء، وهو مسلم سني.
الرئاسة للمارونية ليست دستورا
اوضح الوزير والنائب السابق والمرجع الدستوري ادمون رزق في حديث لـ"اليوم" ان "انتخاب الرئيس في موعده كان من المسلمات ولم يكن هناك أي إشكالية بالنسبة الى ملء المركز بالرغم من وجود تنافس بين الاشخاص، فقد كانت ثمة مسلمات لا يقدم احد على الاخلال بها.
موضحا أن أول خلل حدث بعد انتهاء ولاية (أمين الجميل) الذي لم يؤمّن خلافته... لأسباب شتى منها التنازع على كرسي الرئاسة واستعمال الضغوط والقوة لمنع المجلس من الانعقاد، وقد حصلت في تلك المرحلة حالة من الشغور الرئاسي للمرة الاولى حتى انعقاد مؤتمر الطائف واقرار وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب الرئيس رنيه معوّض الذي اغتيل بدوره واستشهد، فسارع المجلس النيابي الى انتخاب خلف له قبل دفنه، هو الرئيس الياس الهراوي، وبعده تمّ تعديل الدستور لانتخاب العماد اميل لحود، وشغرت الرئاسة بعد نهاية التمديد، وانتخب العماد ميشال سليمان بموجب تسوية الدوحة التي اسقطت مكانة الرئاسة وقلّصت هيبتها اذ رهنتها لمحاصصات انتقصت دورها، وانتهى العهد الماضي دون تأمين استمرار الرئاسة، ودخلت البلاد في دوّامة انقلابيّة، تحت حكم الأمر الواقع، تعطّل فيه الدستور وشُلَّت المؤسّسات".
واشار الى ان "الاستحقاقات الدستورية بدأت تتعرض للتعطيل وارتكبت مخالفات اساسية منذ العام 1988 بمخالفات دستورية ونشوء حالة أمر واقع في ظل هيمنة خارجية ووضع أمني متوتر ولا تزال الحالة مستمرة في مخالفة الدستور ونقض ميثاق العيش المشترك لذلك فإن السلطات القائمة موصومة بانتقاص شرعيتها وهي سلطات امر واقع تمثل دوامة انقلابية تهدد الكيان اللبناني الموحد".
وجزم رزق بأن "لا شيء في الدستور اسمه "ترويكا" انما هي نتيجة خلل بنيوي ناجم عن فقدان الأهلية... ولفت الى ان "الرئاسة للطائفة المارونية ليست مكرسة في الدستور وانما هي عرف مستمر من قبيل تأكيد طابع الكيان اللبناني التعددي الموحد".
بومنصف لـ"اليوم": أسوأ أزمات الفراغ الرئاسي
ورأى المحلل السياسي نبيل بو منصف في تصريح لـ"اليوم" ان "حكم الترويكا هو عرف، فلا يوجد فيه نص دستوري، بل هو قائم على معادلة ان لبنان هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يتمتع بصيغة فريدة من نوعها، بوجود مسيحيين ومسلمين، لهذا قرر قادته في الجمهورية الاولى بعد الاستقلال ان يتم التوزيع على الرئاسات الثلاث بالشكل المتعارف عليها حالياً، بالاضافة الى ان الرئيس المسيحي في لبنان كرّس منذ أيام الانتداب الفرنسي بموافقة الزعماء المسلمين وبعد حصوله على الاستقلال كرس هذا العرف بمعادلة ان يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المسيحية الاكثر عدداً وهي الطائفة المارونية وان يكون رئيس الوزراء من الطائفة السنية ورئيس مجلس النواب من الطائفة الشيعية، فلقد كرس هذا العرف للحفاظ على صيغة التنوع في لبنان والتوازن بين كل الطوائف، ولقد كرسه النص ضمناً دون ان يأتي على ذكره لا في الجمهورية الاولى ولا بعد اتفاق الطائف".
وقال: "في كل العهود الرئاسية السابقة كانت تحدث مشكلات في نهاية أيامها ومن هذه المشكلات قد يحصل احياناً مشكلة في اختيار رئيس جديد للجمهورية بحسب صراعات كل حقبة وظروفها ان كانت خارجية او داخلية او مزيج بينهما او قد يكون هنالك أزمات أخرى، بحيث ان لبنان هو البلد الوحيد الديموقراطي في الشرق الأوسط الذي يوجد فيه تناوب في السلطات حيث يتم انتخاب رئيس للجمهورية إلا ان المصالج الداخلية والخارجية تلعب دورها دائماً في نهاية كل عهد كي يأتي الرئيس الجديد الذي يريده هذا المحور أو ذاك، ففي زمن الوصاية السورية كانوا يريدون رئيسا تابعا لهم وقبل الوصاية السورية كان هنالك لاعبون آخرون يتدخلون في انتخاب الرئيس كأميركا وأطراف عرب آخرين".
وختم المحلل السياسي: "نحتاج الى قوى سياسية مخلصة لا تعمل لمصلحة أحد في الخارج وتقرر اعادة البلاد الى سياق دستوري حقيقي سليم عندها تحدث قراءة جديدة للدستور ويتم إصلاحها كما يجب ولسنا بحاجة الى مؤتمر تأسيسي كما يقول البعض وعندها من الممكن اعادة الاعتبار لرئاسة الجمهورية فالجميع لديه مصلحة في ذلك".