قد يصل الإنسان يوما إلى الاحساس بأن ظروفه هي الأسوأ، وأنه لا يستطيع الاستمرار في هذا الألم العبثي الذي تبدو عليه حياته بلا معنى، فهل يستطيع المرء أن يقاوم المعاناة ويجد معنى لحياته وسط أصعب الظروف؟
كان هذا هو السؤال الذي انطلقت منه أبحاث فيكتور فرانكل مؤسس مدرسة فيينا الثالثة في العلاج النفسي بعد مدرستي فرويد وأدلر. حيث يؤكد في كتابه الرائع (الإنسان يبحث عن المعنى) أن كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان، ماعدا شيء واحد لا تستطيع أي قوة أن تسلبه منه، وهو حريته في اتخاذ موقف محدد في ظروف معينة.
هناك على الدوام اختيارات، وفي كل يوم وكل ساعة تتأتى الفرصة لاتخاذ قرار يحدد ما إذا كان المرء ينوي أن يخضع أو لا يخضع للقوى التي تهدده بسلب حريته الداخلية أو عظمته الذاتية، وهو القرار الذي يحسم ما إذا كان ينوي أو لا ينوي أن يصبح لعبة في يد الظروف.
لقد انتقدت نظرية فرانكل كلا من التحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الأدلري، فمبدأ اللذة الفرويدي، ودافع المكانة الأدلري غير كافيين لتفسير السلوك الإنساني، فقد وضع فرانكل ما سماه بمبدأ إرادة المعنى ليعارض به كلا من مبدأ اللذة الفرويدي، ومبدأ إرادة القوة في علم النفس الأدلري.
فالسعي إلى تحقيق اللذة أو الوصول إلى المكانة المهيمنة للحصول على القوة والنفوذ، لا يمكن أن يفسر كل صور النشاط الإنساني، في حين أن معنى الحياة لدى كل إنسان هو الذي يمكن أن يجعل من السعي الدؤوب وتحمل المعاناة شيئا يرفع من قيمة الحياة ويجعلها تستحق أن تعاش، ومن يجد سبباً يحيا به، فإن في مقدوره أن يتحمل في سبيله كل الصعاب، فالإنسان يحتاج إلى المعنى في الحياة، بل وله الحرية في البحث عن هذا المعنى، فبدون معنى الحياة نقع في مأساة الفراغ الوجودي.
ويحدد فرانكل ثلاث مجموعات من القيم يرتبط بها معنى الحياة لدى الإنسان؛ قيم إبداعية، وقيم خبرية، وقيم اتجاهية. وتعني الأولى ما يعطيه للعالم في صورة إبداعات، وتعني الثانية ما يأخذه من العالم في صورة خبرات، أما الثالثة فتعني الموقف الذي يتخذه في محنته في حالة ما إذا كان يجب عليه أن يواجه قدرا لا يمكن تغييره. وهذا هو السبب في أن الحياة لا تتوقف أبدا عن أن يكون لها معنى، لأنه حتى الشخص المحروم من كل من القيمتين الإبداعية والخبرية، يظل أمام تحدي المعنى الذي يجب عليه أن يحققه، وهو المعنى المتضمن في الكيفية التي يقرر فيها أن يواجه معاناته. كلمة السر هي المعنى، ذلك الاختلاف البسيط الذي يحدث الفارق الكبير، فهو يمنح المعنى للتجربة، ويقرر صناعة الاتجاه، وهذه أكثر الطرق فعالية في معالجة الماضي والتخلص من الصدمات، حيث يتم تغيير معنى التجربة وخلق سياق مختلف للحدث. إن العيش بذهنية الضحية المظلوم هو موت مُعجّل، أو انتحار مقنّع، وحين نمتنع عن إعطاء الصلاحية والطاقة لكل البرمجات السلبية، ونقاوم الابتزاز العاطفي الذي تمارسه الأنا الضعيفة، ستبدأ عظمتنا الداخلية في التجلي وستزدهر الذات العليا التي ستحول أي أزمة تواجهنا في الحياة لتجربة ثرية ولفرص للنضج والتوسع في إمكانيات الحياة اللامحدودة .