لم يكن بوسع صانع القرار الأوروبي أن يتخذ من تدابير احترازية بأكثر مما فعل، كما لم يدر بخلده يوما أن تصبح الهجرة السرية -غير الشرعية- وفقا لتوصيفات دول العالم قاطبة، وبخاصة بالنسبة للبلدان الأوروبية التي أضحى هذا الأمر بمثابة كابوس مرعب يضرب شواطئها ليل نهار، اشتد وقعها في السنوات الأخيرة قادمة من دول أفريقية عديدة، نتيجة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بتلك البلدان، مما دفع بالآلاف من السكان هناك للبحث عن مستقبل أفضل عبر اتخاذ طرق الهجرة غير الشرعية، وتركب البحر في موجات بشرية هائلة قاصدة أوروبا كان شمال القارة مسرحها الرئيسي للعبور.
إغلاق الحدود
وانطلقت الهجرة السرية بادئ ذي بدء في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي من عدد من الدول الإفريقية وشمال إفريقيا، وحينها قررت الدول الأوروبية إغلاق حدودها أمام هؤلاء المهاجرين بعد حصولها على الأيدي العاملة، ووصولها لاحقا لمرحلة من الاكتفاء، حيث شكلت زيادة المهاجرين عبئا عليها، واشترطت البلدان الأوروبية الحصول على تأشيرة "شنجن" لدخول أراضيها، ودخلت هذه الاتفاقية حيز التطبيق بدءا من العام 1985، وتمكن هذه التأشيرة حاملها من دخول أي دولة من بلدان أوروبا من تلك الموقعة على اتفاقية الشينغن، وهي بالطبع تسمح بالعبور والمرور بأراضي بقية دول الاتحاد الأوروبي.
ولم يأت هذا القرار بالنتيجة المرجوة في إيقاف الهجرة إلى أوروبا، أو حتى يحد منها، فعلى الجانب الآخر تمكن الراغبون في الهجرة إلى بلدان أوروبا من إيجاد مسالك ودروب أخرى للهجرة من دون حتى الحاجة لوثائق ثبوتية خاصة بالسفر، وكانت أكثر تلك الهجرات السرية في تلك الفترة تنطلق من شواطئ تونس إلى جزيرة "لامبيدوزا" الإيطالية، وكذلك من شمال المغرب إلى شواطئ جنوب إسبانيا، في الوقت الذي كانت فيه السياسة الأوروبية تتعامل مع هذه الهجرة وفقا لمنظور أمني بحت من خلال إغلاق المنافذ الحدودية، وهو ما دفع بهؤلاء المهاجرين إلى البحث عن منافذ أخرى تمكنهم من الوصول إلى أوروبا.
ووقعت الدول الأوروبية في سبيل مكافحتها للهجرة السرية اتفاقيات أمنية مع دولتي تونس التي أضحى شمالها معبرا للمهاجرين، والمغرب الدولة التي يقصدها مهاجرون لم يفت من عضدهم المنع، وهدفت السياسات الأوروبية من هذه الاتفاقيات الأمنية إلى عرقلة وصول هؤلاء المهاجرين، وقبل أن يجف مداد هاتين الاتفاقيتين الأمنيتين مع المغرب وتونس، تمكن المهاجرون من إيجاد بدائل أخرى بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية وخفر السواحل المتحفزة لأداء مهامها، وبذا استطاعوا إيجاد بدائل جديدة عبر ذهابهم إلى سواحل جنوب المغرب وموريتانيا، ومن ثم الوصول إلى جزر الكناري الإسبانية، وهو ما يزيد من طول المسافة التي يقطعها المتسللون، وبالتالي يعزز من احتمال غرقهم وموتهم، خاصة وأنهم غالبا ما يستخدمون في هجرتهم تلك مراكب صغيرة الحجم، وكانت أعداد المهاجرين كبيرة بحيث لم تحتمل تلك الزوارق الأعداد الكبيرة التي يتم إدخالهم إليها.
ازدهار الاتجار بالبشر
وفي ظل هذه الأوضاع المأساوية نشط تهريب البشر، وضربت الفوضى بأطنابها، وظهر سماسرة الإتجار بالبشر وتكاثرت أعدادهم، وأعداد المهربين. وبالمقابل وضح جليا حجم الزيادة المطردة في أعداد الحالمين بغد أفضل في أوروبا، وهو ما حدا بالاتحاد الأوروبي إلى عقد عدة مؤتمرات لمناقشة هذا الخطر الداهم وكيفية إيجاد السبل الكفيلة لمواجهته.
وكان من أبرز هذه المؤتمرات "المؤتمر الأوروبي لمكافحة الهجرة السرية" الذي عقد بالرباط في عام 2006 بمشاركة العديد من الدول الإفريقية والأوروبية والعربية، وهدف المؤتمر لإقامة شراكة وثيقة بين الدول التي يأتي منها المهاجرون وتلك التي يقصدونها، وكان من نتيجة ذلك الربط بين المساعدات والتنمية ومكافحة الهجرة غير المشروعة، وتعزيز الرقابة على الحدود واتفاقيات إعادة قبول المهاجرين السريين، ليعقبه بعد ذلك مؤتمر باريس في العام 2008، والذي أقر اعتماد (اتفاقية الهجرة واللجوء) باقتراح من فرنسا، وهدف لتنظيم تدفق موجات الهجرة على ضوء الحاجة لليد العاملة في دول الاتحاد الأوروبي.
ووفقا لمصادر إخبارية، فإن الاتحاد الأوروبي وضع خطة سياسية وأمنية خلال المرحلة الحالية تتمثل أشكالها في هيئة لقاءات مرنة تشارك فيها الدوائر الأمنية لهذه البلدان الخمس الكبرى (إسبانيا - إيطاليا - فرنسا - بريطانيا - وألمانيا)، وهي البلدان التي تقصدها غالبية تيارات الهجرة السرية، وركزت معظم هذه المشروعات بين هذه الدول وحكومات دول شمال إفريقيا - بحسب المصادر - على منع المهاجرين السريين من التسلل إلى أوروبا "بالقوة" سواء عن طريق إنشاء معسكرات لاحتجازهم أو ترحيلهم.
كما سعت جهود مكافحة الهجرة السرية إلى دعم الاتفاقيات الأمنية المشتركة الثنائية أو الجماعية بين الدول الواقعة على ضفتي المتوسط بما يتيح الدعم المادي واللوجستي لحكومات شمال إفريقيا.
جهود موريتانية
وفي السياق، كشف مصدر في جهاز الأمن الموريتاني أن وحدات من الشرطة الوطنية في "انواذيبوا" العاصمة الاقتصادية للبلاد، قامت بعملية وصفها المصدر بـ"النوعية" قبل أيام تمثلت في ضبط وإفشال محاولة لتهريب مجموعة من المهاجرين السريين إلى إسبانيا عبر ميناء المدينة، وتم في هذه العملية ضبط 14 أجنبيا من بينهم سيدة أثناء تجمعهم بمنزل في حي شعبي في ضاحية المدينة.
وعادة ما ينجم عن محاولات الهجرة السرية فقدان العديد من أرواح هؤلاء المهاجرين، ولقي قبل ذلك اثنان وثلاثون مهاجرا إفريقيا مصرعهم غرقا قبالة سواحل البلاد أثناء إبحارهم بصفة غير شرعية، كانت وجهتهم حينها جزر الكناري الإسبانية، في الوقت الذي انتشل فيه خفر السواحل الموريتانيون آخرين نجوا من مصير رفقائهم.
وأوضح مصدر أمني موريتاني أن الناجين كانوا ضمن مجموعة تضم 57 مهاجرا إفريقيا تاهوا في عرض البحر لمدة وصلت إلى 17 يوما، قبل أن يتم العثور عليهم في حالة مزرية وتم إنقاذ 25 منهم.
وجاء في إفادة لأحد الناجين في سياق حديثه لوسائل إعلام محلية ويدعى عليون صو وهو من دولة غامبيا ويبلغ من العمر 25 سنة: بأن المهاجرين الأفارقة البالغ عددهم 57 شخصا ضلوا طريقهم إلى جزر الخالدات (الكناري) في إسبانيا بعد أن انطلقوا من شاطئ مدينة انواذيبوا.
وأضاف صو: "إن الرحلة من الشاطئ إلى الجزر كان من المفترض أن تستغرق ثلاثة أيام إلا أنهم تاهوا بسبب تقلبات البحر الذي أمضوا فيه 17 يوما، نفد خلالها زادهم والماء، وسقط بعضهم في البحر، بينما عثر خفر السواحل على بقية الناجين، وأكد صو للصحافة "أن المهربين يتحصلون من كل فرد مهاجر على ألفي دولار"، وأرجعوا سبب خروجهم في هذه المغامرة المخيفة الى الإحباط والفقر.
من جهته، قال قائد فرقة الدرك بميناء نواكشوط الرائد حننا ولد سيدي لوسائل الإعلام: إن الجهات الأمنية غالبا ما توقف زوارق مليئة بهؤلاء المهاجرين، موضحا أن أغلبهم يقدمون من دول غامبيا والسنغال ومالي وغينيا بيسا وبوركينافاسو ونيجيريا والنيجر.
وأكد ولد حننا أن هؤلاء المتسللين يتعرضون غالبا لخطر الموت بسبب تقلبات البحر، ونفاذ مؤونتهم وضعف القوارب التي تقلهم حيث يتعرضون للإرهاق الشديد.
ويؤكد المسؤولون الموريتانيون أن تبني الدولة لسلسلة من الإجراءات الأمنية والتشريعية والإدارية، ساهمت في تقليص أعداد المهاجرين دون أن تقضي علي هذه الظاهرة بشكل كامل.
موجات جديدة
وشهدت الفترة بين عامي (2006-2008) تدفق موجات هائلة من المتسللين إلى مدينة انواذيبوا - وصولا لجزر الكناري، وحينها أطلقت السلطات استراتيجيات لمواجهتها أهمها الإستراتيجية الوطنية الشاملة 2010 والتي قامت فيها بسن قوانين رادعة لمحاربة الهجرة السرية، شاركت فيها مختلف القطاعات الوطنية، ووضعت حينها نظاما صارما لمنح التأشيرات، كما استُحدث نظام "بيومتري" للحالة المدنية لتسجيل الأجانب.
وتشير إحصاءات رسمية أنه بين عامي (2008-2010) وصل (139) زورقا إلى إسبانيا عن طريق البلاد، حملت على متنها (9000) مهاجر بينهم أطفال ونساء، فيما انخفضت الأعداد في الأعوام التالية بفضل تطبيق السياسات ليعبر زورق واحد عام (2011)، حمل (15) راكبا فقط، بحسب الإحصائية الرسمية.
وذات الشيء شهده العام (2012)، لترتفع نسبة المهاجرين غير الشرعيين في عام (2013)، حيث استطاعت ثلاثة زوارق تحمل اثنين وسبعين مهاجرا الوصول إلى الجزر الإسبانية، وأخيرا سجلت الأعوام الأخيرة معدل زورق واحد في السنة تقريبا.
المعاهدة الإسبانية - الموريتانية
وشهد العام (2003) أول اتفاق أمني بين نواكشوط ومدريد في مجال الهجرة السرية يقضي باستقبال موريتانيا للمهاجرين الذين يثبت أنهم حاولوا السفر إلى إسبانيا انطلاقا من سواحل موريتانيا، واحتجازهم بمركز إيواء في مدينة انواذيبوا، ومن ثم ترحيلهم إلى بلادهم. كما تتشارك إسبانيا وموريتانيا في دوريات أمنية لمراقبة السواحل، فيما تساعد المخابرات الإسبانية في تعقب وتفكيك شبكات الهجرة والمهربين وإيداعهم لمركز الإيواء بنواذيبوا، إلا أنه والحال كذلك، انتقدت منظمات حقوقية عديدة منها منظمة العفو الدولية في فترة سابقة ما قالت انها "إساءة معاملة" لهؤلاء المهاجرين.
كما وقعت اسبانيا وموريتانيا مطلع عام (2015) مذكرة للتعاون في نفس المجال، اعتبرت بمثابة معاهدة دولية، وقال وزير الداخلية الإسباني وقتها خورفي فيرنانديز: "إن هذه المذكرة تمهد لتوقيع جملة من الاتفاقيات ذات الصلة بالتعاون بين قطاعي الداخلية في البلدين"، وتعهد الوزير بدراسة جميع النقاط التي تضمنتها مذكرة التفاهم وتجسيدها في اتفاقيات رسمية تعزز من التعاون المشترك الذي أفضى لنتائج ملموسة تمثلت في انخفاض أعداد المتسللين في السنوات الأخيرة إلى جزر الكاريبي.
وفي موضوع الشراكة الاورو - متوسطية تعهد الاتحاد الأوروبي بدعم موريتانيا في مساعيها ضد الهجرة بثمانية ملايين يورو، ويرى الاتحاد من ناحيته أن موضوع الهجرة السرية لم يعد موضوعا وطنيا فقط، بل أصبح شأنا دوليا، يجب أن يعالج في إطار عالمي، وفرضت دول الاتحاد الأوروبي من خلال هذه الشراكة رؤيتها وسياستها للهجرة على دول الجنوب خاصة الأقطار المغاربية انطلاقا من خوف أوروبا على أوضاعها الأمنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية من خطر الهجرة وآثارها.
إفريقيا وحلم الهجرة
ويرى الباحث الموريتاني ولد السالك "أنه إذا كانت الهجرة ظاهرة إنسانية عرفتها وتعرفها مختلف شعوب العالم، وشكلت أداة أساسية عبر التاريخ للتعارف بين الشعوب وتلاقح الثقافات وتقوية أواصر الحضارات، فإنها اليوم تعتبر من القضايا الأكثر إثارة للجدل من تلك القضايا المطروحة على المستوى العالمي، وذلك لما ينتج عنها من مشاكل للدول المرسلة والمستقبلة على السواء، ولارتباطها بهموم الإنسان بشكل مباشر، بالاضافة لما تثيره من مشاكل اقتصادية واجتماعية، ومشاكل أمنية خاصة لدول "العبور" و"الاستقبال"، وذلك مع اختلاف نسبي بين مناطق العالم.
ويضيف ولد السالك: "تعتبر القارة الإفريقية من بين مناطق العالم الأكثر تضررا من هذه الظاهرة الإنسانية نتيجة لما تعانيه أغلب هذه الدول من مشاكل اقتصادية واجتماعية وأمنية، وهذا الواقع يجعلها بلدانا طاردة لأبنائها مما يجعلهم يتحركون في أمواج بشرية مهاجرة الى مختلف دول العالم بحثا عن واقع أفضل، الأمر الذي جعل هذه القارة مبعث قلق للدول الأوروبية".
وبما أن موريتانيا من دول القارة الأفريقية وتعاني بشدة من مشاكل الهجرة السرية، لكونها بوابة للدول الإفريقية جنوب الصحراء، وجسرا للتواصل بين شمال وغرب وجنوب القارة الإفريقية، وقريبة كذلك من القارة الأوروبية عبر إطلالتها على المحيط الأطلسي، وهذا الموقع الجغرافي تزيد من حساسيته هشاشة الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في موريتانيا، كما تعمقه كونها ليست دولة مرسلة فقط للمهاجرين، وإنما هي دولة عبور واستقبال، وهذه الحالة ربما تكون خاصية موريتانية من بين أغلب دول القارة السمراء الأخرى.
وظلت موريتانيا عبر التاريخ منطقة استقبال لهجرات عديدة قادمة من مختلف الاتجاهات، وهو ما جعلها منطقة تلاق لكثير من الشعوب وتعايش لأقوام مختلفة لأنها لم تعرف حكما مركزيا طيلة تاريخها الطويل حتى استقلالها عام 1960، وهو ما يبرز من خلال التسميات التي أطلقت عليها "المنكب البرزخي"، "بلاد السيبة"، وهذا ما جعل منها فضاء مفتوحا لكل القادمين إليها، وكذلك لقلة عدد سكانها، ولعامل القرب الجغرافي والتماثل اللغوي، فقد ظلت موريتانيا تستخدم اللغة الفرنسية في إدارتها بعد رحيل الاستعمار الفرنسي ما سهل على القادمين الاندماج فيها بسرعة، واستمرت على هذا الحال حتى عام 1980 - تاريخ اندلاع الأحداث بين موريتانيا والسنغال بسبب الخلاف حول تقسيم النهر الفاصل بينهما، وأدى ذلك إلى ترحيل متبادل للمقيمين من الدولتين، الأمر الذي جعل الأفارقة المهاجرون يسعون إلى الحصول على الأوراق المدنية من أجل استخدامها من جديد للهجرة إلى الغرب والحصول من خلالها على اللجوء السياسي تحت دعوى أنهم يتعرضون للاضطهاد من النظام الحاكم آنذاك.
وبرغم أن جميع الدول أغلقت أبوابها أمام تيارات الهجرة السرية القادمة من الجنوب بعد أحداث سبتمبر 2001 خاصة دول أوروبا - الوجهة المفضلة لدى الأفارقة - إلا أن موريتانيا لم تجار حينها تلك السياسات، ولم تحدد نقاطا إجبارية لدخول الأجانب الى أراضيها إلا في عام 2010 حيث حددت وزارة الداخلية (39) منفذا للدخول والخروج، كما لا تزال ترتبط بالعديد من الاتفاقيات مع هذه الدول تسمح لمواطني البلدان المعنية بالتنقل في البلاد بحرية ببطاقات الهوية الوطنية، خاصة دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا.
وبينما الحال كذلك يستمر حلم الأفارقة بالسفر نحو المجهول والاختيار بين نوعين من الموت على رأي الشاعر الفرنسي ادموند هاروكور: "أن نغادر معناه أن نموت قليلا وأن نبقى معناه أن نموت كثيرا".
الشرطة تلقي القبض على مهاجرين حاولوا الوصول إلى القارة الأوروبية
شاحنة تحمل مهاجرين غير شرعيين تسير وسط الصحراء