عكست زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز للقاهرة المستوى المتقدم للعلاقات الاستراتيجية بين البلدين الشقيقين بعد شهور طويلة من الدعمين السياسي والاقتصادي السعودي الكبير للقاهرة في أعقاب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في العام 2013.
وكانت السعودية أول الدول العربية التي أعلنت تأييدها للإطاحة بمحمد مرسي بدقائق بعد إعلان قائد الجيش آنذاك عبدالفتاح السيسي اطاحته اثر تظاهرات مليونية حاشدة عبر البلاد احتجاجا على حكم مرسي الذي استمر عاما واحدا، واتسم بالاستقطاب والفوضى السياسية والتدهور الاقتصادي والحمية الاجتماعية.
كما أعلنت الرياض في مارس ٢٠١٤ لاحقا جماعة الاخوان المسلمين المحظورة في مصر تنظيما ارهابيا ما شدد الخناق على الجماعة التي كانت الحكومة المصرية صنفتها "تنظيما ارهابيا" في نهاية ٢٠١٣.
ويقول المحلل السياسي السفير عزمي خليفة، مستشار المركز الإقليمي للدارسات الاستراتيجية والسياسية ومقره القاهرة لـ "اليوم" : إن "الدعم السياسي السعودي لمصر كان فارقا خلال الفترة الماضية، ولايزال هذا الدعم مستمرا".
وأضاف خليفة : إن "إعلان الملك الراحل عبدالله تأييده قرار الجيش بعزل الرئيس السابق محمد مرسي، عقب بيان الجيش بـ «30» دقيقة كان خير دليل على دعم السعودية لارادة الشعب المصري" الذي خرج بالملايين ضد حكم جماعة الاخوان المسلمين.
ويقول خليفة : إن الدعم السياسي السعودي لمصر بلغ ذروته "عندما شعرت السعودية بان حكم الاخوان تخلي عن الثوابت العربية بدعوة اسلامية غير حقيقة ورات ان الاخوان لديهم هدف سياسي يرتدي سترة الإسلام".
وتابع : "حين وجدت غضبا شعبيا تجاه هذا الحكم قررت الا تدعم هذا النظام، وقالت : هذا الحكم لا يصلح ولا يمثل الإسلام فانحازت الى الشعب المصري الذي ثار عليه".
وتعد زيارة الملك سلمان للقاهرة الاولى له منذ توليه سدة الحكم في السعودية في يناير 2015 خلفا للملك عبدالله، ويعتقد المحللون ان الزيارة لها محوران، الاول : سعي الرياض للوقوف على مدى استجابة الجانب المصري لدعم السعودية خاصة وسط التهديدات الايرانية في المنطقة، والثانية رغبة السيسي في تأكيد تواصل الدعم الاقتصادي السعودي لمصر. دعم سياسي فارق
وحين هبت رياح التغيير في مصر ضد نظام الاخوان المسلمين الذي دخل في مواجهة مع كل مؤسسات الدولة، كانت الرياض أول من وقف مع ارادة الشعب المصري ومؤسسات البلاد خشية انهيارها. وبعث الملك عبدالله بن عبد العزيز - رحمه الله - برقية تهنئة للمستشار عدلي منصور، عقب توليه الحكم في يوليو 2013 ، جاء فيها: "نهنئكم بتولي قيادة مصر في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، وإننا إذ نفعل ذلك لندعو الله
- تعالى - أن يعينكم، وفي ذات الوقت نشد على أيدي رجال القوات المسلحة كافة ممثلة في شخص الفريق أول عبدالفتاح السيسي، الذين أخرجوا مصر في هذه المرحلة من نفق الله وحده يعلم أبعاده وتداعياته، لكنها الحكمة والتعقل اللذان حفظا لكل الأطراف حقها في العملية السياسية". الرسائل التي حملتها هذه البرقية كانت واضحة جدا للعالم كله، فالرياض تعترف بشرعية نظام جديد، بالاضافة لمباركتها تحرك الجيش "المنقذ". ويقول السفير جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق لـ "اليوم" : "هناك الكثير من المواقف التي اتخذتها السعودية للدعم النظام المصري سياسيا ودبلوماسيا في اوقات شديدة الحساسية".
وأوضح ان "الملك عبدالله رفض - بعد أحداث ثورة 30 يونيو - التدخل الدولي في الشأن الداخلي المصري، كما أعلن وقوف السعودية بجانب شقيقتها مصر ضد الإرهاب"، معلنا أن دولته ستقدم مساعدات لمصر بقيمة أربعة مليارات دولار وهو ما قابلته تعهدات مماثلة من الكويت والإمارات. وأضاف بيومي : إن السعودية قادت حراكا بين الدولة العربية لإعادة دعم مصر من قبل الدول الخليجية خاصة بعد تدهور العلاقات بين مصر وعدد من الدول الخليجية في فترة حكم الاخوان والسياسات التي اتبعت آنذاك.
حراك دبلوماسي سعودي
وتردد بعض الدول في تعريف حقيقة ما حدث في مصر بخصوص اطاحة الجيش بمرسي لتدخل في صمت مطبق، فيما دخلت دول أخرى في تلاسن حاد مع القاهرة التي شهدت صيفا دبلوماسيا ساخنا ومحموما في العام 2013.
وأوضح بيومي، أن "الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية في ذلك الوقت سافر إلى فرنسا لشرح حقيقة الأوضاع في مصر، كما لعب دورا دبلوماسيا محوريا لتحسين صورة مصر في دول الاتحاد الأوربي بشكل عام، وفي الولايات المتحدة"، وهو ما قال: انه "أثر بشكل كبير علي شكل العلاقة بين مصر ودول الاتحاد الأوروبي وأمريكا لاحقا".
فيما يقول السفير خليفة : إن "السعودية لعبت دورا دبلوماسيا في الوقت الماضي عن طريق ارسال رسائل الى كل من تركيا وقطر للحد من التوتر في العلاقات مع مصر"، وهي الدول التي دخلت في تلاسن حاد وصدام مباشر مع مصر بخصوص الاطاحة بمرسي.
ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والمحلل السياسي حسن نافعة في اتصال مع "اليوم" : إن "السعودية قدمت أشكال الدعم كافة لمصر منذ ثورة 30 يونيو 2013"، مشيرا إلى أن الدعم السعودي لمصر زاد مع تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز المسؤولية مطلع العام 2015. دعم اختيار المصريين "التاريخي" للسيسي وبعد 6 أشهر من اطاحته بمرسي قرر السيسي - تحت ضغط شعبي - خلع بذته العسكرية والترشح للانتخابات الرئاسية في مايو 2014، وفاز السيسي بهذه الانتخابات بشكل كاسح على منافسه حمدين صباحي.
واعتبر الملك عبدالله فوز السيسي بالانتخابات الرئاسية المصرية في 2014 "يوما تاريخيا" للمصريين.
وقال الملك عبدالله - رحمه الله - في برقية تهنئة بعد دقائق من إعلان النتائج : "نقول لكل الأشقاء والأصدقاء في هذا العالم : إن مصر العروبة والإسلام أحوج ما تكون إلينا لتتمكن من الخروج من نفق المجهول".
كما دعا الملك عبدالله - يرحمه الله - إلى عقد مؤتمر لأشقاء وأصدقاء مصر، لمساعدتها في تجاوز أزمتها الاقتصادية. وشارك الملك سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد - حينها - في حفل تنصيب عبدالفتاح السيسي رئيسا لمصر في يونيو 2014.
وفي يونيو 2014 قام الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يرحمه الله - بزيارة هي الأولى من نوعها، حيث كانت أول زيارة لزعيم عربي أو أجنبي لمصر بعد فوز السيسي بالانتخابات.
رأب الصدع مع قطر
المملكة لم تكن بعيدة ابدا عن خلافات مصر مع أشقائها العرب وحاولت اكثر من مرة "رأب الصدع" بين القاهرة والدوحة التي دخلت في علاقة محتدمة مع النظام المصري الجديد. وقطر إحدى أبرز الداعمين الاقليميين لمرسي المنتمي لجماعة الاخوان المسلمين الذي عزله الجيش اثر احتجاجات شعبية واسعة مطلع يوليو 2013.
وتدهورت العلاقات بين القاهرة والدوحة اثر الاطاحة بمرسي وفض السلطات المصرية بالقوة اعتصاما للاسلاميين في القاهرة في اغسطس 2013.
وتثير تغطية قناة الجزيرة القطرية غضب السلطات المصرية التي تعتبرها منحازة لجماعة الاخوان المسلمين وتستضيف باستمرار ضيوفا مناصرين للاخوان ومرسي من بينهم قيادات إسلامية مطلوبة في مصر بينهم الداعية الاسلامي يوسف القرضاوي.
وفي مارس 2014، سحبت السعودية والبحرين والامارات سفرائها من قطر بسبب عدم التزام الدوحة بتعهدها "بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر، وعدم دعم كل من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد، سواء عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي، وكذا عدم دعم الإعلام المعارض". ثم أعيد السفراء الخليجيون الثلاثة للدوحة في نوفمبر 2014، ومعها وقع اتفاق الرياض التكميلي.
ويقول السفير : "بعد أن وصلت العلاقات المصرية القطرية إلى طريق مسدود بعد موقف الأخيرة تجاه ثورة 30 يونيو ودعم تنظيم الإخوان، قدم العاهل السعودي الملك عبدالله - يرحمه الله - مبادرة لإعادة العلاقات مرة أخرى بين البلدين، وفتح صفحة جديدة بينهما". وأصدر الديوان الملكي السعودي بيانا في 19 نوفمبر 2014 للإعلان عن المبادرة، قال فيه : "ارتباطا بالدور الكبير الذي تقوم به جمهورية مصر العربية الشقيقة، حرصنا وأكدنا على وقوفنا جميعا إلى جانبها وتطلعنا إلى بدء مرحلة جديدة من الإجماع والتوافق بين الأشقاء". وأضاف الملك عبدالله - رحمه الله - في بيانه : " من هذا المنطلق فإنني أناشد مصر شعبا وقيادة للسعي معنا في إنجاح هذه الخطوة في مسيرة التضامن العربي كما عهدناها دائما عونا وداعمة لجهود العمل العربي المشترك".
الدعم الاقتصادي سياسي أيضا
ويعاني الاقتصاد المصري بشدة بسبب تراجع عائدات قطاع السياحة وانحسار تدفق الاستثمار الأجنبي، وتواصل الاعتماد الكبير على الاستيراد من الخارج ما أدى الى تراجع احتياطي النقد الأجنبي بشكل حاد من ٣٦ مليار دولار أمريكي عشية الثورة على مبارك لقرابة ١٧ مليار دولار امريكي في مارس ٢٠١٦.
وبلغت المساعدات السعودية عقب ثورة 25 يناير 3.75 مليار دولار، وقدمت على عدة مراحل بدأت بـ «500» مليون دولار، خصصت لدعم الموازنة، و500 مليون دولار أخرى فى هيئة مساعدات بترولية، وصلت إلى ألف طن، تمثلت فى غاز البترول المسال، بالإضافة إلى تأمين احتياجات مصر من البنزين لسد احتياجات محطات الوقود والكهرباء فى ذلك الوقت.
وعقب ثورة 30 يونيو، قدمت السعودية لمصر 5 مليارات دولار، ودعمت القاهرة باحتياجاتها الكاملة من البنزين بما قيمته مليار دولار، بجانب زيادة الاستثمارات السعودية فى مصر، التي وصلت - حسب مجلس التعاون المصري السعودي - إلى 30 مليار دولار، وتمثلت في استثمارات وتطوير البنية التحتية.
ويشير السفير خليفة الى ان "الدعم الاقتصادي الذي قدمته السعودية عقب ثورة 30 يونيو يعد اكبر دعم سياسي للقاهرة لان الازمة الاقتصادية التي تواجه مصر في الفترة الحالية اكبر تحد بعد الحرب على الارهاب".
ويرى السفير بيومي أن "زيارة الملك سلمان للقاهرة تأتي تأكيدا للدعم السعودي لمصر في كل المجالات وتوضح الزيارة قيمة التعاون بين البلدين".
إنهاء شائعات الخلاف
يرى المحللون ان زيارة الملك سلمان القاهرة سوف تقطع الطريق على الشائعات التي يتم تداولها بوجود خلاف بين البلدين، وسوف تكتم الافواه التي تروج لان القاهرة والرياض في خلاف سياسي، وان هناك اتجاها داخل السعودية اوقف الدعم اللوجستي لمصر وايقاف الامدادات الاقتصادية لها، حسبما تروج تقارير. كان عدد من الصحافة العربية تداول خلال النصف الثاني من العام الفائت، تقارير حول وجود توتر في العلاقات بين الجانبين المصري والسعودي بخصوص بعض الملفات الاقليمية خاصة الملف السوري. ويؤكد خليفة ان زيارة الملك سلمان تأتي "ردا واضحا على جميع الشائعات التي صدرت في الوقت السابق بوجود توتر في العلاقات بين مصر والسعودية، وهذه الزيارة سوف تسكت جميع الافواه التي تروج لمثل هذه الشائعات سوف تكسر كافة السناريوهات المحتملة للسياسات الخارجية المصري".
وأضاف خليفة : إن "توتر العلاقات بين مصر والسعودية يصب في مصلحة الطرفين وخاصة وانهم يمثلان القوتان العظميتان في الشرق الاوسط".
زيادة التعاون الاستراتيجي
ومن المنتظر ان يصدر في ختام زيارة الملك سلمان إعلان عدد من البروتكولات في مختلف المجالات، وان تعلن السعودية المزيد من الدعم السياسي للجانب المصري.
ويتوقع أن يصدر في ختام هذه الزيارة بيان يؤكد نجاحها في "دفع عجلة التعاون بين البلدين في مختلف المجالات"، وربما يتخللها التوقيع على "بروتوكولات" تحدد وتفصل أوجه هذا التعاون".
ووقع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، "إعلان القاهرة" يونيو الماضي، الذي ينص على إنشاء مجلس تنسيق مشترك، وتطوير التعاون العسكري، والعمل على إنشاء القوة العربية المشتركة وتعزيز التعاون والاستثمار في مجالات الطاقة، والربط الكهربائي، والنقل وتحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين.
ويقول السفير بيومي : على البلدين ان يعملا على تطوير هذه العلاقة وترجمتها الى شيء ملموس على أرض الواقع، ولتطوير هذه العلاقة لابد أولا من فض المنازعات الحالية بين الحكومة المصرية والمستثمرين السعوديين، بالإضافة الى جذب الاستثمار السعودي".
وأضاف : "ثانيا لابد من اشراك الجانب السعودي في مشروعات استثمارية ذات فاعلية كالترسانة البحرية وهو ما يجعل العلاقة تستمر وتزدهر لان مثل هذه الاستثمارات تأتي بالفائدة على الجانبين.
فيما يرى السفير خليفة انه "لابد من وجود مشاركة اجتماعية بين السعودية ومصر، فلم تصبح السياسات الخارجية بين الدولة تعتمد في المقام الاول على ان تقرر الدولة مع من تزيد التعامل ومع من تقطعه، فنحن الآن في زمن الدول الشبكية، حيث إن الدولة تقيس علاقتها الدولية عن طريق علاقة المجتمعات وبعضها البعض".