الإرهاب كلمة فضفاضة ومتحيزة، يستخدمها الكل بمدلولات مختلفة، بما يخدم مصالحهم ومنافعهم، ومواقفهم السياسية.
ويشمل في الغالب البنية التحتية للعنف، ويستثنى عنف الدولة، وحروب الإبادة التي تمارسها بحق الإنسانية، فمقاومة الشعوب للهيمنة والاحتلال، رغم أنها مقرة من شرائع الأرض والسماء، ومتسقة مع مبادئ هيئة الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإنها من وجهة نظر المحتل، إرهابا.
هكذا كان الحال دائما مع حركات التحرر الوطنية، في العالم الثالث، التي صنفت أعمالا إرهابية، فالمجاهدون الجزائريون الذين خاضوا ملحمة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، وقدموا تضحيات تجاوزت المليون شهيد، من أجل تحقيق استقلال بلادهم، ظلوا يصنفون من قبل محتليهم، بالإرهابيين، والآن يصنف الفلسطينيون، من قبل الكيان الصهيوني الغاصب، حين يطالبون بإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابهم الوطني، بأنهم إرهابيون، في العقود الأخيرة.
وبسبب حالة الاحتقان التي سادت مناطق كثيرة، من بلدان العالم الإسلامي، بسبب ازدواجية المعايير التي يمارسها الغرب، تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، وتجاه القضايا العادلة للشعوب الإسلامية؛ برزت ظاهرة التطرف، وكان المنطلق فيها، هو انطلاقة الجهاد الإسلامي، لمواجهة المد الشيوعي، ولأن ذلك الكفاح، حدث إبان استعار الحرب الباردة، وشيخوخة الاتحاد السوفييتي، فقد نظر له الأمريكيون بشكل إيجابي، واستقبلوه بالتأييد والترحاب، وقدموا للمجاهدين مختلف أشكال الدعم، ووجدوا فيه فرصة لإلقاء رصاصة الرحمة، على الإمبراطورية السوفييتية التي أفلت شمسها.
جرى استقبال المجاهدين الأفغان، من قبل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، بالبيت الأبيض، وتم وصفهم بالأبطال.
لكن الأمور انقلبت رأسا على عقب، بعد هزيمة الشيوعية، وانسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، تحول المجاهدون إلى إرهابيين، وصنف جملة الجنسيات العربية، بالأفغان العرب، ولم يتلقوا ما هو أقل من العرفان بدورهم، انقلب السحر على الساحر، وتحول حلفاء الأمس إلى خصوم، تفرق المجاهدون شذر مذر، وتلقفهم، من وجد فيهم أدوات لتنفيذ أجنداته السياسية، وبرزت ظاهرة جديدة عرفت بالإسلامفوبيا، صار يشار إلى كافة المسلمين، في الغرب كمصدر للخطر على السلم العالمي، وبرزت حملة شعواء في الغرب، ضد الإسلام والمسلمين، طالت الرسول الأعظم ومبادئ الإسلام الحنيف، وجرى تجاوزها من قبل الحكومات الغربية، تحت ذريعة أنها تعبر عن رأي كتابها، ودخل الكاريكاتور والأفلام السينمائية، في تلك الحملة الشرسة على الإسلام والمسلمين، وتأكد للمسلمين، وللعرب بشكل خاص، أن قيمهم وثوابتهم وهويتهم هي المستهدفة.
ولأن لكل فعل رد فعل، كما اكتشف ذلك ارخميدس منذ آلاف السنين، تصاعدت موجات التطرف، في العالم الإسلامي، ردا دفاعيا، منفعلا على تطرف الإعلام في الغرب، وبلغت أوجها في الحادي عشر من سبتمبر 2001، حين تمت هجمات منسقة بالطيران المدني، على برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطن.
ومنذ ذلك التاريخ، أعلنت الإدارة الأمريكية حربا عالمية على الإرهاب.
لم تقم الإدارة الأمريكية، ولا الدول الغربية الحليفة لها، بمراجعة نقدية لسياساتها العنصرية، بحق العرب والمسلمين.
فهذا الجزء من العالم، بالنسبة للعقل الكامن لدى حكام الغرب، غير مكتمل إنسانيا، إنه عالم بدائي ومتوحش، لا يستحق اعتبارا آخر، وحضر المثل الكاريكاتوري الصارخ: القصة الشهيرة، صورة المستوطن الأوروبي، في جنوب أفريقيا وهو ينحر شابا أفريقيا بسكينة، ويحاول الأفريقي التخلص من الذبح وحماية نفسه من الموت، يعض الضحية إصبع قاتله، فيصرخ القاتل، لقد غض المتوحش أحد أصابعي.
وهكذا رأينا الغرب، يتجه ركضا إلى الخلف، بدل أن تكون حوادث الحادي عشر من سبتمبر فسحة لمراجعة السياسات البائسة للحكومات الأمريكية المتعاقبة تجاه قضايا العرب والمسلمين. اختارت إدارة الرئيس بوش شن الحرب على العرب والمسلمين. وتقدمت سريعا لاحتلال أفغانستان، وتدمير بلد أنهكته الحروب والصراعات القبلية، وأعلن عن النية في شن حرب عالمية، على الإرهاب، ذكرت أسماء عشر دول مستهدفة فيها، جميعها بلدان عربية وإسلامية.
وبوشر في احتلال العراق، البلد الجريح، الذي تآكلت بنيته التحتية، وعض أبناءه الجوع، بفعل الحروب التي مرت عليه، منذ مطالع الثمانينيات من القرن الماضي، وبفعل الحصار القاسي، الذي طالت آثاره كل العراقيين. والذي تشير تقارير دولية إلى أنه تسبب في مصرع ربع مليون طفل عراقي، بفعل استخدام الأسلحة الكيماوية واليورانيوم المنضب في تلك الحروب، وبفعل الجوع الذي تسبب فيه الحصار. كشف احتلال العراق، عن حقائق عديدة، لقد اتضح زيف الذرائع التي من أجلها احتل العراق. لم يتمكن الأمريكيون من إثبات وجود أسلحة دمار شامل في العراق، كما لم يتمكنوا من إثبات دعواهم في وجود علاقة للدولة العراقية بتنظيم القاعدة. والعكس صحيح، فالقاعدة حضرت بقوة، إلى العراق، بعد الاحتلال وليس بعده. وسلم الأمريكيون إدارة الحكم في العراق، إلى عصابات التطرف الطائفي. وبعد الاحتلال فقط، وليس قبله، جرى القتل على الهوية في أرض السواد، وصودرت البلاد كيانا وهوية، وأقيمت بها عملية سياسية على أساس القسمة بين الطوائف الدينية، والأقليات القومية. ومرة أخرى، كان السلوك الأمريكي في العالم الإسلامي، والمنطقة العربية، عنصر تحريض للتطرف، وتغول الإرهاب. فبروز داعش هو أحد الإفرازات الرئيسية للاحتلال الأمريكي لهذا البلد العريق. وكان موسم التمدد للإرهاب، قد بدأ بالفعل بعد احتلال أفغانستان والعراق، حيث تحولت القاعدة وداعش، وأخواتهما إلى تنظيمات عالمية، تضرب في مالي بأندونيسيا، وفي العاصمة البريطانية لندن والعاصمة الفرنسية باريس، وتفجر في أمريكا وتنشط بالبلدان العربية، باليمن ومصر والجزائر والمغرب وتتمدد إلى أفريقيا.
ورغم انتشار هذه الظاهرة، فإن مراجعة نقدية حقيقية لأسباب تغولها من قبل الغرب، لم يعلن عنها حتى يومنا هذا.
واصل الغرب سياساته العنصرية، تجاه العرب والمسلمين. وتناسى تاريخا من الكراهية والحقد، صنعته مجازره ووحشيته، تجاه شعوب هذا العالم. تناسى أن أكثر من خمسين مليونا سقطوا صرعى في الحرب العالمية الثانية، وهي حرب لم يكن للعرب والمسلمين، فيها ناقة وجمل. فقد كانت كما الحرب العالمية الأولى أوروبية بامتياز. ومع ذلك استخدم الجنود العرب في كلا الحربين، وقودا رخيصا لحرب، ليست من صنعهم، ولم يكن لهم فيها إرادة أو قرار، أو مصلحة. وكانت كلفة الحرب العالمية الأولى، مئات الألوف من القتلى. وعلى الأرض العربية، دارت رحى المعارك، في الحربين العالميتين. وعلى هذه الرمال، سقطت الدماء غزيرة. في الحرب العالمية الأولى، دخلت العرب شركاء، لكن بصيغة التابعين، وانتهت الحرب بالتنكر للوعود التي قطعها الغرب لقادة اليقظة. وانتهى الأمس، بتقسيم الوطن العربي، إلى مناطق نفوذ. واعتماد فلسطين العربية، وطنا قوميا لليهود، كما نص وعد بلفور المشؤوم.
أما نتائج الحرب العالمية الثانية، فكانت أكثر عدائية وشراسة، من سابقتها. فالعرب الذين ناصروا الحلفاء بالحرب، كوفئوا باستمرار بنقيض ما توقعوه. فلم تكد الحرب تضع أوزارها حتى بدأ الإعداد البريطاني للرحيل عن فلسطين، وتسليمها للصهاينة. وكانت الذريعة، هي حاجة اليهود، الذين تعرضوا للهولوكست، من قبل ألمانيا النازية لوطن قومي خاص بهم. وبدلا من أن يتحمل الألمان، الذين ارتكبوا حملة الإبادة بحق اليهود، وزر جريمتهم، حمل الفلسطينيون ذلك.
وكانت نتيجة ذلك بقر بطون النساء في دير ياسين، وارتكاب مجازر في بئر السبع، ومصرع ألوف الفلسطينيين، على يد قوات الهاجانا الصهيونية، وتشريد أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني من ديارهم.
وقد فتح قيام هذا الكيان المسخ على الأرض العربية، أبواب جهنم في هذه المنطقة، حروب واعتداءات متكررة: عدوان ثلاثي على مصر شاركت فيه بريطانيا وفرنسا والكيان الغاصب، عام 1967م، واحتلال إسرائيلي مباشر لأراض عربية واسعة، شملت شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، والضفة الغربية والقدس الشرقية، في حرب الأيام الستة، التي عرفت بالنكسة عام 1967م. اعتداءات يومية متكررة على لبنان والأردن وسوريا ومصر، وتصعيد لبناء المستوطنات والممرات والجدران العازلة بالضفة الغربية والقدس الشرقية، خلافا للقرارات الدولية، الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وبشكل خاص قرارا 242 و338، التي أكدت على أن الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب يونيو 1967، هي بحكم القانون الدولي أراض محتلة، لا يجوز المساس بها، وتغيير أوضاعها الجغرافية والسياسية والقانونية.
لن نتحدث عن مئات الألوف من القتلى، في انقلابات عسكرية خطط لها الغرب، وشملت القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، شملت بلدانا كثيرة، في غواتيمالا والدومونيك وبوليفيا، وبنما، وتشيلي، وفنزيلا، والأرجنيتن، وغانه وكانشاسا، والسودان، وأندونيسيا، وباكستان... والقائمة طويلة، انقلابات هدفت للقضاء على أنظمة سياسية، اعتبرت غير قابلة للإخضاع لحكومات الغرب، وهدفت إلى الإتيان بأنظمة عسكرية صديقة، وحروب مباشرة فرنسية وأمريكية، في الجنوب الشرقي من آسيا، في فيتنام وكمبوديا ولاوس وكوريا، وكانت جزءا من الحرب الباردة المحتدمة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
والهدف دائما من تلك السياسات هو الإخضاع، وفي هذه الأيام، تحتدم حرب ظالمة يقودها أفراد بالكونغرس الأمريكي ضد المملكة العربية السعودية، موجهة السهام لتحالف استراتيجي استمر أكثر من سبعين عاما بين البلدين، وكان عامل استقرار وقوة للاقتصاد والنمو في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، والذريعة هي ضلوع المملكة في دعم الإرهاب.
تارة بتوجيه الاتهام لثوابت المملكة الدينية والأخلاقية، وللهوية التي صنعت تاريخها، وتارة أخرى، تحت مسمى الدعم المباشر للإرهابيين الذين نفذوا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. ولا يحتاج المرء لكثير من الجهد، لتفنيد هذه الادعاءات المضللة. فالمملكة لم تكن يوما بعيدة عن تهديد قوى الإرهاب لأمنها واستقرارها، وقد دفعت دماء عزيزة، من أبنائها، سواء كانوا أفرادا في الجهات الأمنية، أم من المدنيين الأبرياء الذين تعرضوا لهجمات الإرهابيين، في المساجد والأسواق والأماكن العامة، ولم تندمل الجروح التي تسبب بها الإرهاب في بلادنا حتى يومنا هذا.
وفي سياق محاربة الإرهاب، التزمت المملكة العربية السعودية، بكل القرارات والتوصيات الصادرة عن المؤسسات الدولية، في هذا الشأن، ووضعت إمكانياتها، ومن غير تحفظ، في الحرب المعلنة على الإرهاب، على أمل إلحاق الهزيمة النهائية به، وخلال هذه السنوات، واجهت الأجهزة الأمنية ببسالة، أعمال الإرهاب، وتصدت لها بجسارة.
وراكمت خبرات نوعية في هذا المجال، وضعت أمام جميع الدول، وعلى رأسها الدول الغربية، من أجل تحقيق النصر في الحرب على التطرف والإرهاب.
ولن تتوانى المملكة، رغم كل الافتراءات عن مواصلة دورها، يقينا منها أن هزيمة الإرهاب، الخطوة الأولى على صعيد تعزيز الأمن والاستقرار والسلم العالمي.
وإذا كان الهدف الحقيقي هو الحرب على الإرهاب، فإن المملكة ستكون دائما في المقدمة، ولن تتوانى عن ذلك، أما أن يكون الهدف هو التعرض للمقدسات والثوابت الدينية، والأخلاقية، وأن يستهدف الهوية، فهو ما لن تساوم عليه هذه القيادة، ودونه تهون كل التضحيات، وسوف تستمر القافلة في هذه البلاد، على قاعدة أننا سلم لمن يسالمنا وخصم لمن يعادينا.
ولن تكون هذه الهجمة المسعورة على المملكة، سوى سحابة صيف، سنكون بعون الله قادرين على تجاوزها، والأمل كبير، في أن يدرك المسؤولون الأمريكيون مخاطر هذه السياسة على بلادهم، وعلى الأمن والاستقرار والسلم في العالم بأسره.