تعود فكرة تأسيس الكيان الغاصب إلى الحركة الصهيونية، والتي هي في أساسها عقيدة سياسية ناتجة عن مورثات أوروبية متعددة ومركبة، متجذرة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشه اليهود في الغيتات بأوروبا الشرقية على وجه الخصوص، والمجتمعات الأوروبية بشكل عام في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
ارتبط بهذه الايديولوجية عدد من الحركات السياسية المتنافرة، جمع ما بينها اعتقادها المشترك أن اليهود منذ تاريخهم القديم يشكلون أمة وشعبا، وأن ذلك منحهم حقوقا قومية ثابتة، صامدة عبر الزمن وغير قابلة للتغيير، وأن تلك الخصوصية جعلت من اليهود شعبا غير قابل للانصهار في بوتقة الحضارات الأخرى.
كذلك يدعي الصهاينة أن الشعب اليهودي وجد باستمرار في فلسطين. وأن حالة المنفى الدائم التي عاشها اليهود وضعتهم في موقع الغرباء في أنحاء العالم. لكن حالة الغربة لم تضعف من رغبتهم للعودة إلى أرض أجدادهم، بل خلقت في نفوسهم استعدادا دائبا للنضال للحصول على أرض خاصة بهم. وهكذا فإن دعاة الصهاينة الأوائل اقترحوا على اليهود ألا ينتظروا الإنقاذ الالهي لهم من المنفى، بل عليهم أن ينجزوا الاستقلال لتنظيم أنفسهم، وأن يتحملوا مسئولياتهم بأنفسهم لكي يوقفوا المأزق المتواصل من الشوق الحاد للعودة.
كان المطلب الرئيسي للحركة الصهيونية هو تشكيل كيان قومي يهودي مستقل في فلسطين. وقد أشار يودور هرتزل، المؤسس الأول للصهيونية الحديثة إلى أن على اليهود أن يشكلوا دولة يهودية خاصة بهم.
في عام 1895، كتب هرتزل المؤسس الحقيقي للصهيونية الحديثة، والذي تحت قيادته تم عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل سنة 1897 في كتابه الشهير الدولة اليهودية. وفي هذا الكتاب دعا اليهود إلى أن يبنوا دولة خاصة بهم. وأن المكان الأمثل لهذه الدولة هو أرض فلسطين نظرا للروابط الدينية والتاريخية لليهود بتلك الأرض. واقترح تشكيل «شركة يهودية» تكون مسؤوليتها تمويل شراء الأراضي الفلسطينية. والإشراف على زراعتها وتنميتها.
كانت فترة الحرب العالمية الأولى قد تميزت بمناورات بريطانية فاضحة. ففي عام 1919 تبادل السير هنري مكماهون، المعتمد البريطاني في مصر والشريف حسين بن علي، (شريف مكة) الرسائل. ونتج عن تلك المراسلات وعد بريطاني بتأييد استقلال المشرق العربي.
ويشير جورج أنطونيوس في كتابه اليقظة العربية، إلى أن مكماهون وافق على تعريف حسين للأراضي المتضمنة بالوعد البريطاني، الذي يضم الأراضي الفلسطينية، على أساس أن يضمن الشريف حقوق الأقليات الدينية في المناطق التي يتواجدون بها، وأن توفر لها الحماية اللازمة. ولم تذكر في هذا الصدد أية استثناءات تخص فلسطين.
وفي الوقت الذي جرت فيه تلك المراسلات والاتفاقات بين بريطانيا والشريف حسين، كان البريطانيون، يجرون مفاوضات سرية مع فرنسا. وكانت واحدة من نتائج تلك المفاوضات اتفاقية سايكس- بيكو التي تم إبرامها في 16 مايو 1916، وبموجبها جرى تقاسم التركة العثمانية في المشرق العربي، بين فرنسا وإنجلترا.
وبالنسبة للصهاينة، فإنهم حصلوا في 2 نوفمبر عام 1917، على وعد بلفور الذي نص على ان «بريطانيا» تنظر بعين العطف الى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وستبذل أفضل مساعيها لتسهيل هذه الغاية.
وعلى الرغم من أن وعد بلفور شكل تناقضا واضحا للنتائج التي تمخضت عنها مراسلات مكماهون والشريف حسين. إلا أن تنفيذ اتفاقية سايكس- بيكو أعطيت الأولوية في التنفيذ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مباشرة. وقد منحت هذه الإتفاقية المشروعية الدولية عندما صادقت عصبة الأمم في 24 يوليو عام 1922 على الانتداب البريطاني لفلسطين وشرق الأردن، والذي عنى في نتائجه تمكين بريطانيا من الوفاء بوعدها تجاه الصهاينة. وكان وعد بلفور في عام 1917 هو التأييد الرسمي الأول من إحدى القوى العظمى للادعاءات الصهيونية في فلسطين.
ومع أنه تواجد في فلسطين على الدوام جماعة صغيرة من اليهود، كما كان الحال في دول مختلفة، إلا أن إحدى النتائج الرئيسية لوعد بلفور، هي مضاعفة الهجرة اليهودية في فلسطين. وكلما ازدادت أعداد المهاجرين اليهود، تفاقمت الأزمة بين الفلسطينين والمهاجرين الجدد، حتى تصاعد هذا التوتر إلى عنف وانفجارات في نهاية الثلاثينيات.
لم يكن التوازن في هذا الصراع لصالح الفلسطينيين العرب. فالفلسطينيون في صراعهم مع الصهاينة لم يكونوا مفتقدين للتنظيم والقيادة المقتدرة فقط، ولكنهم كانوا ممزقين إلى عشائر ومجاميع صغيرة. ولذلك فإن غياب التنظيم ووحدة العمل جعلا تحقيق الهدف الفلسطيني في الاستقلال ومنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين أمرا غير ممكن التحقق في مثل تلك الظروف. وكانت نتيجة ذلك أن كثيرا من الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية ضد البريطانيين وحركة الهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينيات انتهت بنتائج مأساوية.
والحقيقة أن الخطوة الرئيسية باتجاه تنفيذ الأهداف الصهيونية تحققت في نهاية الحرب العالمية الثانية. ذلك أن الإرهاق الذي عانت منه الحكومة البريطانية خلال فترة الحرب، والأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها، جعلتها تتهيأ للرحيل عن فلسطين. وكان العالم، قد بدأت تتنامى إليه أخبار الإبادة التي تعرض لها اليهود الأوروبيون في معسكرات الاعتقال على يد النازيين. وقد أدت هذه العوامل مجتمعة، إلى خلق مناخ مؤيد لقيام دولة يهودية، بدلا من وطن قومي يدار من قبل البريطانيين كما اقترح في وعد بلفور.
وفي عام 1947، عقدت بريطانيا النية على التخلي عن انتدابها لفلسطين، طلبت من الأمم المتحدة معالجة الصراع اليهودي - العربي في فلسطين. وفي 3 سبتمبر 1947، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181 المتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية. ونص القرار بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: الشطران الأوليان يقسمان بالتساوي بين الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون آنذاك 70% من التعداد الكلي للسكان واليهود الذين لا يشكلون أكثر من 30% من سكان فلسطين. أما الشطر الثالث فيضم مدينة القدس، وستجري إدارته بنظام دولي. وقد نص القرار على دولتين مستقلتين عربية ويهودية ونظام دولي خاص بمدينة القدس سيبرز إلى الوجود في فلسطين بعد شهرين من إتمام مغادرة القوات المسلحة لسلطة الانتداب.
رفض العرب، والفلسطينيون بشكل خاص، هذا القرار. حيث لم يأخذ مخطط التقسيم بعين الاعتبار نسبة التعداد السكاني للشعب الفلسطيني. ولأن الفلسطينيين في غالبيتهم اعتبروا المهاجرين الجدد من اليهود إلى فلسطين في حكم الأجانب الذين لا يملكون الحق في الإقامة الدائمة على هذه الأرض.
وفي 14 مايو 1948، أعلن اليهود من جانب واحد قيام دولة اسرائيل. ولم تعترف الحكومات العربية بذلك. واندلعت الحرب مباشرة بين العرب والدولة الصهيونية. انتهت تلك الحرب بهزيمة للجيوش العربية. وكانت حقا نكبة واجهها الفلسطينيون والعرب جميعا. ونتج عنها تشرد ما يقرب من 775000 من الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة، وبقاء أقلية من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال العسكري الاسرائيلي المباشر. وهكذا انتهى الفصل الأول في مأساة الشعب العربي الفلسطيني، لتتبعه فصول أخرى أكثر قسوة ومعاناة، وأشد مرارة.
وعلى الرغم من أن نتائج نكبة 1948 كانت صدمة لكل العرب، حيث سقط الجزء الأكبر من فلسطين بيد الصهاينة، وفشلت الجيوش العربية التي خاضت الحرب في الحيلولة دون قيام دولة إسرائيل، إلا أن القراءة الموضوعية للخارطة السياسية وطبيعة العلاقات والتحالفات السائدة في المنطقة، تؤكد بما لا يقبل الشك أنه لم يكن بمقدور الأنظمة العربية السائدة آنذاك تحقيق أية نجاحات في مواجهتها مع الكيان العبري الوليد.
لم يكن متوقعا من الحكومة البريطانية أن تطلق يد الحكام العرب بحرية للعمل ضد الكيان الصهيوني، وبخاصة أن قيام هذا الكيان هو التطبيق العملي لما جاء في بنود وعد بلفور البريطاني. ولم يكن بمقدور القادة العرب، الوقوف متفرجين أمام الضغوط الفلسطينية والشعبية بالتصدي بشكل عملي وحازم للدولة الصهيونية، مما أجبرهم على دخول حرب لم تكن المناخات الدولية والمحيطة ولا حتى الذاتية تتيح لهم كسبها. وحين أوقفت المدافع إطلاق نيرانها، لم يجر تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في 8 سبتمبر 1947 حول تقسيم فلسطين. ومما لا شك فيه أن الفلسطينيين عولوا كثيرا على نتائج الحرب العربية - الإسرائيلية، مما غيب إمكانية التفاوض مع الأمم المتحدة أو الوسطاء الدوليين على أساس تطبيق ذلك القرار. وكانت النتائج الميدانية للحرب قد فرضت تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الرئيسي أصبح دولة لاسرائيل في الحدود التي كانت قائمة بها حتى حرب يونيو عام 1967، أما الجزء الثاني فكان الضفة الغربية، وضمت لاحقا إلى المملكة الأردنية، ومن ضمنها مدينة القدس القديمة (القدس الشرقية)، أما الجزء الأخير فكان قطاع غزة وقد تم وضعه تحت الإدارة المصرية.
لقد تحقق الحلم الصهيوني في اغتصاب فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود على أرضها، بينما لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيق حلمهم في تحرير فلسطين وإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابها. ومنذ نهاية تلك الحرب وحتى يومنا هذا، عاش اللاجئون الفلسطينيون في مخيمات بائسة، بنيت لهم في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان. أما من بقي منهم مواجها نار الاحتلال في الجزء الذي أقيمت عليه دولة اسرائيل فلا يزالون مقيمين هناك. وبعد عدوان الخامس من يونيو 1967، أضيف لهؤلاء فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن احتلت اسرائيل البقية الباقية من الأراضي الفلسطينية.
بقي معظم اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا معتمدين على المساعدات الزهيدة التي تقدمها لهم وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة. وفي هذه المخيمات يتوفر القليل من الطعام والسجائر، ولا شيء آخر... الحياة تستمر، ولكن الأمل في العودة إلى الوطن أخذ يخبو مع الأيام.
ومنذ النكبة أصبح الفلسطينيون موزعين في الوطن العربي، يملأهم إحساس بوجود عدو معلن هو الدولة الصهيونية التي اغتصبت أرضهم، وعدو غير معلن يتمثل في غياب أية استراتيجية عربية عملية لتحرير فلسطين. وكان إحساس اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم بالأقطار العربية المجاورة بالحرمان، والوضع غير الطبيعي الذي كانوا يعيشون فيه بتلك المخيمات، قد خلق بيئة ملائمة لنشوء حركة وطنية تكون رأس الحربة في تحرير فلسطين. وكان ذلك هو الدافع لتأسيس حركة فتح.
وأشار البيان العسكري الأول لفتح في الأول من يناير 1965، إلى أن هذه الحركة هي استمرار للكفاح الفلسطيني الذي بدأ بالثلاثينيات تحت قيادة عبدالقادر الحسيني، والذي تواصل عام 1956، ضد الأوضاع المزرية في مخيمات قطاع غزة. وأوضح البيان أن عمليات المقاومة المسلحة سوف تذكر العالم من جديد بأن اليهود لم يحتلوا أرضا خالية من البشر، كما جاء في ادعاءات رئيسة الوزارة الاسرائيلية، غولدا مائير بأن فلسطين هي «أرض بلا بشر، لبشر بلا أرض»، بل إن اليهود استوطنوا أرضا وشردوا شعبها، وأن هذا الشعب قد امتشق السلاح، وقرر أن يدفع الثمن غاليا، ليعيد أرضه وكرامته وحريته واستقلاله. هكذا بدأت مسيرة الثورة الفلسطينية باتجاه تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في استرداد هويته، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أرضه. ثمانية وستون عاما، مرت على النكبة، والحلم في قيام الدولة الفلسطينية لا يزال بعيد المنال. ولم يكن لهذا الحلم أن يتحول إلى أمر واقع، في ظل غياب الاستراتيجية الفلسطينية لاستعادة فلسطين. وفي ظل انقسام الفلسطينيين أنفسهم، بين مناهج فاشلة ومواقف عدمية.
طرد الفلسطينيين من أرضهم بعد النكبة الفلسطينية عام 1948م