توقع تقرير مطول حدوث عدد من التصدعات في النسيج الدولي بحلول عام 2040. وتوصل التقرير إلى نتيجة مفادها أن القدر الأكبر من تلك القلاقل التي ستجري على مدار الخمسة والعشرين عاما القادمة سوف تتركز في القارتين الأوروبية والآسيوية.
وتوقع التقرير الصادر عن مؤسسة «جيوبوليتيكال فيوتشرز» الأمريكية حدوث تغييرات وتصدعات كبيرة في النسيج الدولي. وبالرغم من ذلك، فإن حقيقة واحدة لن تتغير وهى موقع الولايات المتحدة الأمريكية كالقوة العظمى الوحيدة على المستوى العالمي، حيث ستقوم على مدار الخمسة والعشرين عاما القادمة بتبني إستراتيجية جديدة للحفاظ على مكانتها بأقل تكلفة ممكنة.
وسوف تشبه تلك الإستراتيجية سياسة الانعزالية من حيث عدم دخول الولايات المتحدة بشكل قوي في أي صراعات إقليمية. وسوف تقوم الولايات المتحدة بدعم حلفائها بتوفير المؤن والتدريب وبعض الدعم الجوي، ومع ذلك ستعمل أمريكا على احتواء المشكلات داخل حدود أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، بدلا من التدخل فيها بشكل عسكري مباشر.
وسوف تثبت هذه السياسة -بحسب التقرير- أنها سياسة حكيمة وستساعد الولايات المتحدة على استمرارية سيادتها على المستوى الدولي. أما في أوروبا، فإن الاتحاد الأوروبي -كمؤسسة- سوف ينهار أو سيعيد صياغة نفسه إلى منطقة تجارة حرة أكثر تواضعا وسيضم جزءا أقل من القارة.
كما أن هيكل التجارة الحرة الحالي سيكون غير مستدام، وذلك بسبب اعتماد أعضائه -وبخاصة ألمانيا- على التصدير بصورة مفرطة. وسيؤدى هذا الاعتماد إلى كون تلك الاقتصاديات عرضة بشكل شديد لتقلبات الطلب الواردة من خارج حدودها.
وستكون ألمانيا أكتر تلك الدول تأثرا؛ وهو ما سيؤدي إلى تدهور الاقتصاد نتيجة للتقلبات الحتمية في سوق الصادرات، وكنتيجة لذلك، سوف تصبح ألمانيا بحلول عام 2040 قوة اقتصادية من الدرجة الثانية في أوروبا. وسوف يتأثر عدد من الدول جراء هذا التدهور مما سيؤدي إلى ظهور أوروبا الوسطى، وبولندا على نحو خاص، كقوة رئيسية وفاعلة.
وتوقع التقرير استمرار روسيا في المعاناة نتيجة تدني أسعار النفط، حيث كان يتم استخدام إيرادات تلك السلعة للحفاظ على التماسك الداخلي. والآن ومع جفاف تلك الإيرادات، فإن روسيا ستتحول إلى اتحاد كونفيدرالي بل وقد تتفتت إلى أجزاء انفصالية بحلول عام 2040. وسوف يصبح مستقبل الأسلحة النووية الروسية قضية إستراتيجية حاسمة مع تفكك البلاد.
وفى آسيا، ومع استمرار تدني القدرة التنافسية للصين في سوق الصادرات، سوف تصبح البطالة تحديا رئيسيا للرئيس الصيني. وسوف يحاول النظام الحاكم النجاة من التدهور الاقتصادي المستمر من خلال تشديد قبضته على السلطة والعودة مرة أخرى إلى الديكتاتورية. وبالرغم من ذلك، فإن الفروق بين الأقاليم في الصين قد أصبحت أكثر انتشارا وليس من السهل القضاء عليها من خلال الديكتاتورية.
ومن ثم -وبحلول عام 2040- سوف تشهد الصين العودة إلى النزعة الإقليمية المصحوبة بالاضطرابات. وبضعف الصين سوف يظهر في شرق آسيا فراغ للقوة ستقوم اليابان بملئه. وبحلول عام 2040، سوف تصبح اليابان باقتصادها الهائل وقدراتها العسكرية الضخمة القوة الرئيسية في شرق آسيا. أما في الشرق الأوسط، فيتوقع التقرير عدم احتواء «داعش» في العقود القادمة بشكل كبير. وعلى العكس من ذلك، فمن المتوقع أن يوسع التنظيم من رقعة المساحة التي يسيطر عليها.
واعتبر التقرير تركيا وإيران الدولتين الإقليميتين الوحيدتين القادرتين على مواجهة «داعش»، لكن من غير المحتل أن تقوم إيران بذلك بشكل كبير. ونظرا للطموحات الإقليمية لتنظيم «داعش»، فسيكون على تركيا التدخل عسكريا للدفاع عن حدودها. وسوف يؤدي فرض تركيا لقدراتها العسكرية والاقتصادية بشكل فعلي إلى عودة الإمبراطورية العثمانية، مما سيدفع بتركيا للعودة إلى مركز القوة الإقليمية المسيطرة بحلول عام 2040.
وإيجازا لما سبق، فإن المشهد الرئيسي الذي سيظهر على مدار الخمسة والعشرين عاما القادمة سوف يتمثل في اضطرابات آسيا وأوروبا. وعلى العكس من ذلك، تسود فترة طويلة من الاستقرار في أمريكا الشمالية والجنوبية. وعلى الرغم من عدم الاستقرار المتزايد في أوراسيا، يتوقع التقرير أن نرى بزوغ ثلاث قوى إقليمية: اليابان وتركيا وبولندا. وسوف تتميز تلك الدول من بين دول نصف الكرة الشرقي المفتت.
الولايات المتحدة في مواجهة عالم مضطرب
تتمتع الولايات المتحدة، وكذلك أمريكا الشمالية، بدرجة كبيرة من الاكتفاء الذاتي، وذلك على عكس القوى العظمى السابقة. وبغض النظر عن مغريات التجارة الدولية، فإن الولايات المتحدة على وجه الخصوص ليست في حاجة للتجارة لإعالة نفسها. ونظرا لأنها تعد القوى العظمى الوحيدة، بما أن أوراسيا تعاني الفوضى كما أوضحنا سلفا، فمن المحتمل أن تظل الولايات المتحدة المارد العالمى الوحيد لقرون قادمة.
وقد أحدث التحول العالمي -بعيدا عن أوروبا خلال القرن العشرين، والذي تُوج بانهيار الاتحاد السوفيتي- تحولا في القوى لصالح نصف الكرة الغربي. يعادل هذا التحول الجذري ظهور القوى العظمى الأوروبية في القرن السادس عشر، ويتمتع بجذور عميقة في الوقائع الجيوبوليتيكية الدولية.
وتدوم حقب الصعود طويلا على الرغم من أنها قد تواجه مشكلات، حيث يكتب لها البقاء لمدة أطول من مجرد جيل أو جيلين. يُعد من أسباب بقائها لفترة طويلة أنها غير مدفوعة بمجرد توجه جديد واحد، لكنها بالأحرى تمثل تحولا في المنظور، متأثرة بتغييرات سياسية واقتصادية واسعة، وبالقوة العسكرية والثقافة.
ويتمثل السبب الآخر في إدارة تلك القوى على المدى البعيد. حيث تؤدي المواجهات المتواصلة إلى إنهاك المارد الدولي بشكل سريع. لم تتمتع إستراتيجية الولايات المتحدة الخاصة بالحرب الباردة بالقدرة على البقاء. ويعد قيام الثورة الأمريكية ضد النموذج البريطاني لإدارة القوة من المفارقات، حيث يتحتم على الولايات المتحدة تبني الأمر نفسه الذي خُلقت لتعارضه، والذي يتمثل في التغيير المستمر في الاتجاهات والتحالفات والمخاطر.
تمتلك الولايات المتحدة في الوقت ذاته مصلحة عارمة في تأمين أمريكا الشمالية من خلال التحكم في البحار ومنع ظهور التهديدات في النصف الغربي من الأرض. إن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة في أوروبا، وروسيا، والصين، والشرق الأوسط، لا يتمثل في منع ظهور قوى يمكن أن تمثل تحديا للولايات المتحدة، لكن بالأحرى، احتواء الاضطرابات في تلك المناطق لأكبر درجة ممكنة.
ستشهد الولايات المتحدة بطبيعة الحال مشكلات اجتماعية، واقتصادية، وإستراتيجية كبيرة على مدار الخمسة والعشرين عاما القادمة. غير أن تلك المشكلات ستكون في نطاق الحدود الطبيعية للاضطراب والتي تمكنت البلاد من السيطرة عليها ليس فقط في الخمسة والعشرين عاما بل في المائة عام الماضية. غير أنه لا تلوح في الأفق أحداث تؤثر في وجود البلاد.
وفي الوقت نفسه تمتلك مصلحة في الحفاظ على الأمن بأقل تكلفة ممكنة وهو ما يعني تبني إستراتيجية جديدة تكون أكثر اتساقا، مع منهجها الخاص بالحربين العالميتين من ذلك الخاص بالحرب الباردة. وسيتم تنفيذ تلك الإستراتيجية بدرجة أكبر من المهارة التكتيكية؛ نظرا للخبرة المتزايدة للولايات المتحدة في موقع القوة العظمى الوحيدة. وبالرغم مما سبق، فإن الولايات المتحدة ستواجه عالما يزداد فيه الاضطراب وبخاصة في أوراسيا.
الوضع في أوروبا
تتمثل نقطتا الضعف الأساسيتان لأوروبا في عدم استعداد الدول القومية التنازل عن سيادتها لدولة قومية أعلى، إضافة إلى نظام التجارة الحرة. وتنقسم المشكلة الثانية إلى جزءين. أولهما، توجد مشكلة عامة تقول بعدم استفادة جميع الأعضاء بشكل متساو وفي الفترة الزمنية نفسها من التجارة الحرة.
في حين تعود المشكلة الثانية إلى التكوين الفريد لمنطقة التجارة الحرة التابعة للاتحاد الأوروبي ووجود مصدر عملاق في مركزها، وهو المُصدر الذي من المحتمل أن يخسر نصيبه من السوق ومن ثم يؤدي إلى اضطراب اقتصادها الداخلي.
ومع استشراف عام 2040، سيتغير اثنان من خصائص أوروبا، يتمثل أولهما في عدم تمكنها من الحفاظ على البعد الخاص بالتجارة الحرة، وبما أن هذا البعد يعد بمثابة القلب بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن الاتحاد نفسه -بما في ذلك اليورو- سوف يتقلص جغرافيا على أقل تقدير والاحتمال الأكبر أن يختفي من الوجود.
ثانيا، سوف تشهد ألمانيا تدهورا اقتصاديا كبيرا نتيجة للتقلبات الحتمية ولتقلص قدرتها على التصدير. وقد تزداد الأمور سوءا، إلى حد ما؛ نتيجة انكماش وشيخوخة سكانها، غير أن هذا التوجه لا يُعد جوهر المشكلة. سوف تشهد كذلك بقية دول شمال غرب أوروبا -باستثناء بريطانيا- تدهورا يرتبط بالتدهور في ألمانيا. وتبعا لذلك، سوف تنتقل السيطرة والدينامية الاقتصادية من أوروبا الغربية إلى أوروبا الوسطى، مع قيادة بولندا للمنطقة واضطلاعها بدور رئيسي في القارة.
روسيا وأخطار التفتت الداخلي
سوف يكون لانكماش عائدات النفط تبعات طويلة الأجل على روسيا. فلن يتوفر لموسكو موارد كافية للإبقاء على الأقاليم ولا أدوات أمنية فعالة لفرض الوحدة. يترتب على ما سبق أن الاتحاد الروسي وقبل حلول 2040 بوقت طويل سوف يُدار على شكل اتحاد كونفيدرالي على أفضل تقدير، حيث ترتبط الأقاليم بموسكو لكنها لا تخضع لسيطرتها. وعوضا عن ذلك، فقد يصاحب ما سبق انفصال حقيقى لمناطق عدة، وبخاصة في جبال القوقاز ومنطقة سواحل المحيط الهادي وكاريليا. وبغض النظر عن التفاصيل، فإن احتمال بقاء روسيا قطعة واحدة هو احتمال ضئيل، بحسب التقرير.
وفي تلك الأثناء، تزداد مخاطر نشوب صدام مع روسيا مع ازدياد ضعفها لتصل إلى النقطة التي لا تستطيع فيها الحفاظ على قدرة عسكرية كبيرة. حيث تزداد فرص استخدام تلك القوة داخليا، والأهم من ذلك خارجيا، بغية الإبقاء على الحس الحربي، والذي أذكى روح الوحدة لدى الروس مرارا وتكرارا، وذلك عندما يجد نظام الحكم في موسكو نفسه عرضة للخطر. يجب التأكيد كذلك على ظهور قضية مهمة مع فقدان موسكو للسيطرة على الدول التابعة، ألا وهي السيطرة على الأسلحة النووية الروسية. فقد يتحول ذلك إلى أمر مقلق للغاية وربما خطر أيضا.
تراجع الصين واليابان تملأ الفراغ
من السهولة بمكان التنبؤ بألا تصبح الصين قاطرة النمو التي كانت في الماضي. وبغض النظر عن العوامل المتعلقة بالدورات الاقتصادية، فإن عملية السيطرة على البلاد من المركز لا تتوافق في نهاية الأمر مع الازدهار. وسوف تؤدي زيادة النزعة الإقليمية إلى خلق مناطق تتمتع بالثراء وأخرى على خلاف ذلك مما سيؤدي إلى اضطراب مستمر.
ويبدو أن التباين في الصين عميق وشائع ولا يسهل قمعه بواسطة ديكتاتورية مركزية لعدة أسباب. أولها، لا يمكن ضمان وحدة جيش التحرير الصيني تحت الضغوط، وهو الدعامة التي ستستند عليها تلك المركزية. ثانيا، تعد الفروق عميقة للغاية مما سيؤدي -بحسب التقرير- إلى عودة النمط الصيني التقليدي في خلال الخمسة وعشرين عاما القادمة. وأخيرا وربما يعد السبب الأقل أهمية، هو مرور بقية أوراسيا بمرحلة تفكك، وسوف يمثل هذا النمط العام -وبكل تأكيد- نموذجا يحتذي به الصينيون.
وفي خضم هذا التفكك لأوراسيا وتدهور الدولة والاقتصاد الصيني، سوف تظهر اليابان لتكون القوة الإقليمية الجديدة في شرق آسيا بحلول عام 2040. وكما أوضحنا سلفا، سوف يجعل النمو الاقتصادي والقدرات العسكرية والتماسك الاجتماعي من اليابان أكثر الدول التي من المحتمل أن تملأ الفراغ الذي ستخلفه الصين.
الشرق الأوسط.. تركيا تواجه داعش
من المتوقع بحلول عام 2040 أن يتم إجبار تركيا على مواجهة «داعش»، وسيمثل هذا الموقف عمليا عودة للإمبراطورية العثمانية في الأراضي العربية. ويتوقع التقرير نجاح تركيا في العملية التي ستقوم بها ضد «داعش»، غير أن هذا النجاح سوف يجر تركيا إلى مهمة ليس من السهل الانسحاب منها.
ولن يكون من السهل إنهاء تلك المهمة دون استخدام المزيد من القوات. وسوف يكون من الصعب القيام بزيادة القوات على هذا النحو وستكون الحكومة في أنقرة غير راغبة في تنفيذ تلك الإستراتيجية. لا يمكن التكهن بما ستقوم به القوة العسكرية الكبيرة المتواجدة جنوب تركيا، وربما يتم إجبار تركيا على القيام بعمل عسكري، رغم ترددها في ذلك. وسوف يتحول هذا الاحتمال إلى أمر مؤكد حال انتقال القتال إلى داخل حدود تركيا، وهو احتمال لا يمكن تجاهله على أقل تقدير.
تُعد تركيا أكبر قوة اقتصادية في المنطقة، كما أنها تمتلك أكبر قوة عسكرية وتستطيع توجيه قوتها الاقتصادية والعسكرية في أكثر من وجهة. وبغض النظر عن القضايا السياسية الحالية، فإن التحرك ضد «داعش» سوف يؤدي إلى حدوث تطور حتمي: ظهور تركيا كقوة إقليمية مهيمنة هي الأكثر بروزا. ولن تتوقف تلك القوة عند الجنوب، بل ستمتد إلى الشمال الغربي داخل البلقان والى الشمال في حوض البحر الأسود. وبالإضافة إلى عدم وضوح إيديولوجية تركيا، فإن المزيج بين الإسلام والعلمانية غير واضح. غير أن كفاحها المتردد ضد «داعش» سوف سيوجهها إلى وضع القوة الأكثر بروزا في المنطقة بحلول 2040.
تواجه تركيا الكثير من التحديات العسكرية والاقتصادية، بدءا من سكان المنطقة من الأكراد المفككين والمنقسمين بشكل كبير إلى الأحداث التي تدور في شمال إفريقيا. وعلاوة على ذلك، فبالرغم مما تعانيه تركيا من مشكلات داخلية فإنها تظل الدولة القومية الأهم في المنطقة. نحن نشاهد عمليات تفكك ونزاعات في الشرق الأوسط، وأوروبا والاتحاد السوفيتي السابق، ومع زيادة حدة هذا التفكك سيتم خلق فراغ يعتقد التقرير بأن تركيا سوف تقوم بملئه إما بشكل حصري او بدرجة كبيرة. ومن ثم، يتوقع التقرير أن تصبح تركيا القوة الإقليمية الأبرز في المنطقة.
العالم بعد أوراسيا
تتمثل السمة المتواصلة لرؤية للعالم في عام 2040 في انتشار الفوضى بأوراسيا، والتي سوف تظهر للعالم في صورة مختلفة تماما وبقوة أقل مما هي عليه الآن. لقد وصل التدهور الذي رأيناه في أوروبا وآسيا بعد الحرب العالمية الأولى إلى نهايته في الوقت الحاضر. لن تتحول الأراضي التي تشملها أوراسيا إلى صحراء من قبل أعدائها. ومن أوروبا وحتى الصين توجد شعوب مبدعة وذات قدرات غير عادية ستستمر في خلق الثروة لأنفسها ولغيرها. لكن تمر جميع تلك الدول -باستثناء الهند والتي هي مفككة بصور شتى في الأساس- بعملية تفتيت ستقلل من وزنها في النظام الدولي.
ومع استمرار تفكك أوراسيا، فإن انتقال السيطرة هو النتيجة المنطقية. وسوف تصبح القوى المسيطرة المتواجدة في وسط أوراسيا غير فعالة بشكل متزايد. وكما أسلفنا، فمن المتوقع أن نشهد ظهور ثلاث قوى إقليمية داخل أو بالقرب من المناطق المحيطة بأوراسيا بعد أن يصيبها الضعف الشديد؛ نتيجة لمزيج من الموقع الجيوبوليتيكي والقوة العسكرية الاقتصادية والاجتماعية المتأصلة. ولن تكون دولا شاسعة المساحة كتلك التي سيطرت على أوراسيا سابقا، لكنها ستكون أصغر حجما، ومع ذلك ستكون دولا لها وزنها، فسوف تعود اليابان لتصبح القوى العظمى لشرق آسيا، أما تركيا فستكون القوى المسيطرة في الشرق الأوسط، في حين ستقود بولندا تحالفا يمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود لتصبح لاعبا رئيسيا في أوروبا. ومن موقعها على حافة الكتلة الأرضية الصينية الروسية، ستتبوأ كل واحدة من تلك الدول مكانتها كقوة صاعدة كجزء من التداول المستمر للسيطرة في العالم.
وسوف تبزغ بعض المناطق، كقوى اقتصادية، والتي ينظر إليها في الوقت الراهن على أنها غير ذات أهمية، بل وقد يصل الأمر إلى أن تمثل تحديات إستراتيجية للولايات المتحدة. وتلك البلدان هي التي تتمتع بمعدل عال للنمو ومستوى منخفض للأجور، وفي بعض الأحيان، ستكون في الوقت نفسه دولا متقدمة صناعيا.
ويدعو التقرير إلى أن نوجه اهتمامنا بصورة خاصة للتطور في منطقتين. أولهما أمريكا اللاتينية، والتي شهدناها تتمتع بمستوى غير عادي من الاستقرار السياسي في السنوات الخمس عشرة الماضية تقريبا، بالمقارنة بالفترات الماضية. وقد لاحظنا تدفقا للاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الماضية، مما يشير إلى أن المستثمرين قد أدركوا ما حدث بالمنطقة من إنجازات، وبخاصة في دول كالمكسيك، وكولومبيا، وبيرو.
وبطبيعة الحال، فإن البرازيل هي أكبر قوة اقتصادية بالمنطقة وتستقبل الجزء الأكبر من الاستثمار في الوقت الحالي، لكن حتى في حال احتفاظ البرازيل بمكانتها الحالية، فسوف تبزغ دول أخرى كذلك في أمريكا اللاتينية. وسيأتي ذلك كنتيجة للاستقرار المتزايد في كل من أمريكا اللاتينية ذاتها وفي نصف الكرة الغربي بشكل عام، والذي أصبح مستقرا بصورة كبيرة أكثر من النصف الشرقي. وقد استهل التقرير هذا التوقع بتناول الحقيقة المذهلة المتمثلة في تباين نصفي الكرة الأرضية بصورة جذرية. وكنتيجة لذلك، فإن أمريكا الجنوبية تعد في وضع مهم بشكل مثير للدهشة، بالرغم من كونها لا تزال في مراحلها الأولى من التطور والذي من المحتمل أن يدوم بالنسبة لمعظمها حتى حلول عام 2040.
تتمتع شرق إفريقيا بالقدر نفسه من الأهمية، بدءا بإثيوبيا، وكينيا، وتنزانيا وانتهاء بأوغندا. حيث تتطور مراحل الإنتاج الأولية بصورة سريعة في تلك البلدان وأصبحت تمثل بديلا، فى مراحله الأولى، عن الصين. ويمكن أن ينطبق الأمر نفسه على الدول الأقل تطورا في آسيا، مثل ميانمار، ولاوس، والفلبين. ويُعد وجود صناعات أولية ومتقدمة في العديد من تلك الدول -بما في ذلك المكسيك واندونيسيا- أمرا مثيرا للاهتمام بشكل كبير.
عكس هذا التوقع التبعات الأولى للدورة التي بدأت في عام 1991، مع انهيار الاتحاد السوفيتي. لقد دامت فترة السيطرة الأوروبية خمسمائة عام. ليس بمقدورنا تحديد الفترة الزمنية للحقبة الأمريكية، لكننا نستطيع القول إنه نظرا للفوضى المتزايدة في النصف الشرقي من الكرة الأرضية فإننا لا نرى دليلا يشير إلى نهاية تلك الدورة، مع العلم أن تلك الدورات تدوم لقرون.
ومن المؤكد أن الإطار الأساسي الذي قمنا بوصفه، والمتعلق باضطراب نصف الكرة واستقرار النصف الآخر، قد يكون مجرد المرحلة الأولى من تلك الحقبة، غير أنها ستكون العامل الذي يحدد شكل الخمسة والعشرين عاما القادمة. وسوف تتسم تلك الفترة بالخطورة، تماما على غرار كل العصور. وسوف تمتلئ بالأخطاء، والحسابات الخاطئة، والغباء، وسيأتي معها العبقرية، والدقة، والحكمة. قد يكون لتلك الأمور أهميتها على مستوى معين، أما على المدى البعيد، وهو أبعد بكثير بالنسبة لمعظمنا، فإن أهميتها تتلاشى مع طي صفحات التاريخ. ويعد ربع القرن إطارا زمنيا جيدا لرؤية المحتمل والمحتوم يكشفان ما يخبئانه.
أهم التوقعات:
• سيتمثل التوجه الأساسي على مدار ربع القرن القادم في عدم الاستقرار المتزايد في النصف الشرقي من الكرة الأرضية والاستقرار المتزايد في النصف الغربي منها.
• سوف تظل الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم.
• ستتبنى الولايات المتحدة إستراتيجية جديدة للحفاظ على مكانتها بأقل تكلفة ممكنة، حيث ستتجنب التدخل العسكري المباشر في احتواء المشكلات الإقليمية وتستبدله بدعم حلفائها.
• لن يتمكن الاتحاد الأوروبي من الحفاظ على بعده الخاص بالتجارة الحرة، وبما أن هذا البعد هو بمثابة القلب بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن الاتحاد نفسه بما في ذلك اليورو، سوف يتقلص جغرافيا على أقل تقدير والاحتمال الأكبر أن يختفي من الوجود كليا.
• سوف يعيد الاتحاد صياغة نفسه إلى منطقة تجارة حرة أكثر تواضعا وسيضم جزءا أقل من القارة.
• ستكون ألمانيا أكثر الدول تأثرا بالانهيار القادم للاتحاد الأوروبي. وسوف تشهد تدهورا اقتصاديا نتيجة للتقلبات الحتمية في سوق الصادرات، التي تعتمد عليها بشكل كبير. وسوف تصبح ألمانيا بحلول عام 2040 قوة من الدرجة الثانية في أوروبا.
• وكذلك سوف تشهد بقية دول شمال غرب أوروبا، باستثناء بريطانيا، تدهورا يرتبط بالتدهور في ألمانيا. وتبعا لذلك، سوف تنتقل السيطرة والدينامية الاقتصادي من أوروبا الغربية إلى أوروبا الوسطى.
• سوف يبزغ نجم بولندا كلاعب رئيسي في أوروبا.
• وقبل حلول 2040 بوقت طويل، سوف تُدار روسيا على شكل اتحاد كونفيدرالى ترتبط به بعض الأقاليم ولكن لا يتم التحكم بها من موسكو. وعوضا عن ذلك، فقد يصاحب ما سبق انفصال حقيقي لمناطق عدة، وبخاصة في جبال القوقاز ومنطقة سواحل المحيط الهادي وكاريليا. وبغض النظر عن التفاصيل، فإن احتمال بقاء روسيا قطعة واحدة هو احتمال ضئيل.
• ظهرت على الاقتصاد الصيني علامات ضعف النمو، وسوف تشهد الصين بحلول عام 2040 العودة إلى النزعة الإقليمية المصحوبة بالاضطرابات.
• وبضعف الصين سوف يظهر في شرق آسيا فراغ للقوة ستقوم اليابان بملئه. وبحلول عام 2040، سوف تصبح اليابان باقتصادها الهائل وقدراتها العسكرية الضخمة القوة الرئيسية في شرق آسيا.
• لن يتم احتواء «داعش» في العقود القادمة بشكل كاف.
• سوف تمثل قوة «داعش» تحديا عندما تصل سيطرتها لما وراء حدود القوى الرئيسية. وعندها سوف يكون هناك رد فعل من جميع أعدائها، غير أن اثنين فقط منها يمتلكان القدرة على الهجوم المتواصل هما: إيران وتركيا.
• و بحلول عام 2040، من المتوقع أن يتم إجبار تركيا على تحدي «داعش»، وسيمثل هذا الموقف عمليا عودة للإمبراطورية العثمانية في الأراضي العربية.
• من المتوقع نجاح تركيا في العملية التي ستقوم بها ضد «داعش»، غير أن هذا النجاح سوف يجر تركيا إلى مهمة ليس من السهل الانسحاب منها.
توقعات أخرى:
• ستتمثل إستراتيجية الولايات المتحدة من الآن وحتى عام 2040 في مواجهة موسكو من خلال خط دفاعي (سيشمل دول البلطيق، وبولندا، وسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا وبلغاريا) وذلك دون أن تظهر بنفسها بصورة مفرطة.
• بحلول عام 2020، سوف تزداد كل من روسيا وألمانيا ضعفا، وبالرغم من أن بولندا قد لا يحدث بها طفرة من تلقاء نفساها، إلا أن وزنها النسبي سوف يزداد بشكل كبير.
• سوف تزداد القوة العسكرية الروسية في المراحل الأولى من أزمتها النهائية مما يؤدي للتوتر مع بولندا، غير أنها ستتلاشى مع صعوبة السيطرة على مشكلاتها السياسية والاقتصادية الجوهرية.
• سوف يصبح مستقبل الأسلحة النووية الروسية قضية إستراتيجية حاسمة مع تفكك البلاد.
• سيكون لتقلص عائدات البترول عواقب طويلة الأمد على روسيا. فلن تكون هناك موارد كافية لموسكو للحفاظ على الأقاليم ولا حتى أداوت أمنية فاعلة لفرض الوحدة عليها.
• من المحتمل أن يصاحب بزوغ قوى اقتصادية جديدة، وهو الأمر المؤكد حدوثه خلال ربع القرن القادم، ظهور مصادر جديدة للطاقة، ومنها الهيدروكاربونات وغيرها.
• وكما ذكرنا سابقا، فسوف يتم إجبار تركيا على التأكيد على قوتها العسكرية والاقتصادية أمام «داعش» وغيرها من المُنافسين، مما سيدفع بتركيا إلى أن تصبح إحدى القوى الإقليمية الرئيسية بحلول عام 2040. ولن يتوقف فرض تلك الهيمنة على الجنوب فحسب، بل ستمتد إلى الشمال الغربي في البلقان وللشمال نحو حوض البحر الأسود.
• سوف يبزغ بعض المناطق التي لا ينظر إليها في الوقت الراهن على أنها ذات بأهمية دولية كقوى اقتصادية، بل وقد يصل الأمر إلى أن تمثل تحديات إستراتيجية للولايات المتحدة. وتلك البلدان هي التي تتمتع بمعدل عال للنمو ومستوى منخفض للأجور، وفى بعض الأحيان، ستكون في الوقت نفسه دولا متقدمة صناعيا.
• مع زيادة استقرار النصف الغربي من الكرة الأرضية مقارنة بنصفها الشرقي، ستتمتع أمريكا اللاتينية بأهمية كبيرة. ومع ذلك، فسوف تظل في المرحلة الأولى من التطور والتي ستستمر حتى عام 2040 بالنسبة لمعظم الدول.
• مع استمرار تفكك أوراسيا، فإن انتقال السيطرة هو النتيجة المنطقية. وكما أسلفنا، فمن المتوقع أن نشهد ظهور ثلاث قوى إقليمية داخل أو بالقرب من المناطق المحيطة بأوراسيا بعد أن يصيبها الضعف الشديد، فسوف تعود اليابان لتصبح القوة العظمى لشرق آسيا، أما تركيا فستكون القوى المسيطرة في الشرق الأوسط، في حين ستقود بولندا تحالفا يمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود لتصبح لاعبا رئيسيا في أوروبا.
ومن أوروبا وحتى الصين توجد شعوب مبدعة وذات قدرات غير عادية ستستمر في خلق الثروة لأنفسها ولغيرها. لكن جميع تلك الدول، باستثناء الهند والتي هي مفككة أصلا بصور شتى، تمر بعملية تفتيت ستقلل من وزنها في النظام الدولي.