هل هو حلم مستحيل ذلك المسمى بالمدينة الفاضلة؟ أم إن عقل الإنسان يستطيع أن يصل إلى تحقيق هذا الحلم في المستقبل، فعقل الإنسان لم تزل قدراته المستخدمة أقل بكثير من قدراته الممكنة، وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن مساحة ضئيلة من (مخ) الإنسان هي المستخدمة بينما ظلت البقية منه شبه معطلة، رغم ما يجود به الزمن عبر عصوره المختلفة من عبقريات نادرة أسهمت في تغيير وجه التاريخ، لكن التساؤل يظل قائما حول إمكانيات التقدم في ظل نمو مراكز البحث العلمي، واكتشافات العلم الحديث في مختلف المجالات، وهي إمكانيات ذات أمداء غير محدودة، وليست ذات أبعاد غير محدودة، فالأبعاد لا بد لها من حدود في نهاية المطاف، والعقل البشري لا حدود لإمكانياته في الحلم الذي يمكن أن يتحول إلى حقيقة في المستقبل، وجميع الأعمال الكبيرة التي حققها الإنسان كانت أحلاما صعبة المنال في البداية، ومع ذلك استطاع بإصراره أن يترجمها إلى واقع ملموس، ابتداء من بناء الأهرامات إلى اكتشاف الذرة.. وما تلا ذلك من مخترعات واكتشافات، وما قد يحمل المستقبل من مفاجآت لا تخطر على بال أبناء هذا الجيل.
العقبة الوحيدة التي يمكن أن تعيق الوصول إلى تحقيق المدينة الفاضلة هي طبيعة النفس البشرية المتقلبة التي لا تستقر على قرار في تعاملها مع نزعات الخير والشر، فهي بحاجة إلى تربية قويمة، وسيطرة تامة، وأحكام صارمة، وهذه من الأمور التي لا تزال بعيدة عن سيطرة النفس البشرية المتقلبة، حتى في الدول القريبة من المثالية في أنظمتها، والتي وصل فيها الإنسان إلى مستوى متقدم من الانضباط.. لا تزال تعاني مما يرتكبه غير الأسوياء من مواطنيها، وهو أمر يعيد الشكوك حول إمكانية تحقيق حلم المدينة الفاضلة، ما دام العلم لا يزال عاجزا عن نفي نوازع الشر في النفس البشرية، ووجود الخير والشر في حياة الإنسان هو امتحان لقدرته على تجاوز مسببات انهزامه أمام نفسه الأمارة بالسوء، من أجل ذلك وجد الثواب والعقاب، وهذا لا ينفي أهمية جهد الإنسان في الوصول إلى حياة أفضل، وهو الجهد الذي يعني المشاركة في صناعة الغد الأفضل لكل البشر.
قد يحقق العلم للإنسان الرفاهية المادية، لكن الرفاهية الروحية ليست بيد العلم، بل هي مرتبطة بمشاعر وعواطف الإنسان المتقلبة، التي احتار العلماء في سر تقلبها، فطبيعة البشر ما زالت رموزها مستعصية وغير قابلة للحلول النهائية، حتى بعد اكتشاف شفرة الجينات الوراثية، ومحاولة تعديل بعض الجينات بما يسمى الهندسة الوراثية وفي تجارب لم تعط نتائج حاسمة في كل الحالات، فهي مرتبطة بسلطة إلهية أقوى من سلطة البشر، ومهما استطاع العلم تحقيق الرفاهية المادية، فإنه يظل عاجزا عن تحقيق الرفاهية الروحية للإنسان، بل إن من أعجب الظواهر هي أن انغماس الإنسان في الرفاهية المادية غالبا ما يزيد من مساحة البعد بينه وبين الرفاهية الروحية، وهذا ما يفسر انتشار الانحرافات والاضطرابات النفسية كالقلق الحاد والتوتر المرضي وربما قاد ذلك إلى الانتحار، في المجتمعات المترفة، دون أن ينفي ذلك انتشار الانحرافات والاضطرابات السلوكية كتعاطي المخدرات والسرقات والعلاقات المحرمة، وجرائم القتل في المجتمعات الفقيرة، يساعد على ذلك في كل الحالات، الانفلات من سيطرة النظام، أو تجاوزه بالواسطات والمحسوبيات التي يتمتع بها أبناء الذوات، وكأنهم خلقوا من طينة أخرى غير التي خلق منها البشر.
ومع كل ذلك يمكن القول: إن بدت فكرة المدينة الفاضلة مستحيلة.. فليس مستحيلا الوصول إلى مجتمع متوازن في مادياته وروحانياته، يتمتع فيه المواطن بدرجة عالية من الاستقرار النفسي والحياة الحرة الكريمة، وتتوفر فيه لهذا المواطن كل أسباب الرفاهية المادية التي يستطيع في اجوائها المشاركة الإيجابية في بناء حاضر ومستقبل مجتمعه ووطنه وأمته.