لكل مرحلة، من مراحل الانتقال في السياسة الدولية معلم خاص بها. هكذا كان التاريخ دائما وأخرى، تبرز امبراطوريات جديدة، على حساب الامبراطوريات القديمة، في دورات تاريخية متعاقبة، تقرب من مراحل النمو والشيخوخة للكائن الحي. وكل امبراطورية تمر بمرحلة فتوة فاكتمال فتراجع، فانهيار. هكذا وصف العلامة عبدالرحمن بن خلدون مراحل نشوء الامبراطوريات، بالعصبية فالعمران والشيخوخة.
ويتفق المراقبون والمحللون السياسيون، أن العالم الآن على أعتاب مرحلة سياسية جديدة، سينبثق عنها نظام دولي جديد فما ملامح هذا النظام، وما علاقة ذلك بالعنوان الذي تصدر هذا الحديث، والذي تدفع لتناوله مناسبة مرور قرن من الزمن على توقيع اتفاقية سايكس بيكو، التي قسم بموجبها المشرق العربي، بين البريطانيين والفرنسيين. وقد وضعت تلك الاتفاقية حجر الأساس، لتنفيذ وعد بلفور، بتأسيس وطن قومي لليهود فوق أرض فلسطين.
لقد مر عالمنا المعاصر، منذ مطلع القرن المنصرم، بنظامين عالميين، وبشكل ثالث من أشكال إدارة الصراع، على مستوى العالم.
كانت المرحلة الأولى، هزيمة القوى الاستعمارية القديمة، بإطلاق رصاصة الرحمة على الرجل المريض بالأستانة، في الحرب العالمية الأولى. وقد تسلمت الدول الغربية القديمة، ممثلة في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا إرث السلطنة. وكان الوطن العربي، ميدانا رئيسيا في الصراع الذي احتدم من أجل تقاسم تركة العثمانيين. وكان أهم معلم من معالم تلك المرحلة تأسيس عصبة الأمم المتحدة، ودخول تعابير جديدة على القاموس السياسي، كالحماية والوصاية والانتداب، ومبادئ حق تقرير المصير.
وقد شهدت مرحلة ما بين الحربين بداية انطلاقة حركات الاستقلال ليس في الوطن العربي وحده، بل في قارات ثلاث هي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. كما شهدت بداية انزياح قوى الهيمنة التقليدية، وظهور الولايات المتحدة بقوة للمسرح السياسي الدولي، كقوة عسكرية واقتصادية في آن معا.
ولأن الحرب الكونية الأولى، لم تكمل شكل الخريطة السياسية الدولية، ولأن القوى الدولية التي تولت قيادتها، قد بدأت مرحلة الشيخوخة، وبسبب الأزمة الاقتصادية العالمية الحادة، كان لابد من حرب كونية أخرى، تنجز ما عجزت تلك الحرب عن تحقيقه. فكان انطلاق الحرب العالمية الثانية، تعبيرا عن اختلال في توازن القوى، لصالح الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي، القوتين الأكثر فتوة وحيوية. وكانت تعابير ما بعد الحرب عقائدية، مع تمايز في النهجين السياسي والاقتصادي. وأبرز معالم ما بعدها هو تشكيل هيئة الأمم المتحدة، بجسديها المعروفين: مجلس الأمن والجمعية العمومية، والمنظمات الدولية الأخرى، التي تحت مظلتها.
ورغم أن معارك التحرير قد أنجزت استقلال معظم البلدان العربية، لكن صياغة سايكس بيكو، بقيت مرجحة، في تشكيل خارطة الدول الوطنية الوليدة. لأسباب هي من صلب مناقشتنا في هذه القراءة. لكن الأمور لم تستمر كذلك إلى ما لا نهاية.
وفي هذا السياق، يقتضي القول إنه ليس صحيحا أن إعادة النظر في اتفاقيات سايكس بيكو عام 1917، التي قسم بموجبها المشرق العربي، تزامنت مع وصول المحافظين الجدد إلى سدة الحكم بالولايات المتحدة الأمريكية، في مطلع هذا القرن. فالحديث عن نهاية النظام الدولي الذي ساد في أعقاب الحرب الكونية الأولى، يعني فيما يعنيه، إعادة النظر في مجمل نتائج تلك الحرب، بما فيها اتفاقية سايكس بيكو. وفيما يتعلق بوعد بلفور، فقد وجد صناع القرار الأممي الكبار، أنه ليس من المصلحة بقاؤه في خانة الوعد، وأنه ينبغي وضعه قيد التنفيذ.
فإثر نهاية الحرب العالمية الثانية، جرى الحديث عن ترتيبات أولية، وعن إعادة النظر في الخرائط التي صيغت بعد الحرب العالمية الأولى، لأنها لم تأخذ في حسبانها مصالح المظلومين، من الطوائف الدينية، والأقليات القومية. وقيل في حينه إن الاتفاقيات التي ارتبطت بنتائج الحرب العالمية الأولى، حرمت الكرد من تشكيل دولة قومية خاصة بهم، تجمع أكراد تركيا وإيران والعراق وسوريا، في أمة واحدة، ضمن الحدود التي يقيمون بها.
لكن الاندلاع السريع للحرب الباردة، واكتشاف السلاح النووي، واستخدامه من قبل الأمريكيين في هيروشيما ونجازاكي، والتحاق السوفييت السريع بالنادي النووي، خلقت جميعها حقائق جديدة، لم يعد بمقدور الأمريكيين، وحلفائهم تجاوزها. وكانت السبب في تعطيل مشروعهم بالمنطقة العربية، في خلق سايكس بيكو جديدة على أسس طائفية ومذهبية وأقلوية قومية.
لقد دشنت نتائج الحرب الكونية الثانية، مفاهيم جديدة بالواقع العربي، عندما أكدت على المبادئ التي أقرتها عصبة الأمم، بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن على ألا يتخطى ذلك الحق، تجاوز ما رسم من خرائط جيوسياسية، من قبل قوى الهيمنة. وهكذا جرى التبشير بويستفاليا عربية، تستمد حضورها من روح ويستفاليا القديمة. لكن نطاقها هي الخرائط التي رسمت من قبل البريطانيين والفرنسيين، للمنطقة بأسرها. وعلى قاعدة صمود تلك الخرائط، خاض العرب معاركهم من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير.
لقد أدت نتائج الحرب الباردة، إلى تعطيل رغبة الغرب في تحقيق اندماج اقتصاد جميع بلدان المنطقة، في الاقتصاد الغربي. كما حالت أيضا دون خضوعها السياسي له. فقد انقسم الوطن العربي، كما انقسمت أنظمته السياسية، إلى محاور وفقا للصراع المحتدم بين أقطاب تلك الحرب. وقد اقتضى ذلك، بعد امتلاك المتخاصمين لسلاح الرعب النووي، اعتماد الحروب بالوكالة، بحيث يشن أحد الحلفاء حربا بالإنابة، على حلفاء الطرف الآخر. واقتضى ذلك أن يمنح الوكيل، فائضا من القوة، يكفي لأن يضطلع بالإدارة المباشرة للحرب بالوكالة.
وفي ظل مرحلة الاستقطاب الدولي، لم يكن من مصلحة الغرب أو الشرق، إضعاف حلفائهم بالمنطقة، لأن ذلك يعني من جهة، إلغاء مبدأ الوكالة في الحرب، أو في القيادة المباشرة للتكتلات الاقليمية. وليس من شك في أن ذلك مكن الخصوم من اكتساب نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري على حساب غرمائهم الاستراتيجيين بالمنطقة.
وهكذا تأجل الحديث عن سايكس بيكو جديدة، ولم يعاود الإشارة لها، ولكن بشكل عابر، إلا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وتحديدا بعد حرب أكتوبر عام 1973، حين أشير من قبل مراكز بحوث أمريكية إلى العراق كموزاييك، ومنطقة رخوة غير قابلة للبقاء موحدة. وكان هنري كيسنجر قد صرح في حينه أن إسرائيل خرجت مرة أخرى منتصرة في حربها مع العرب، وأكدت حضورها مجددا، كأعظم قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وأنه حان الوقت لنجعل منها أكبر قوة إقليمية. وبالتأكيد فإن تحقيق ذلك، هو رهن بتفتيت بلدان المنطقة بأسرها.
وحين جرى تدمير حائط برلين، وأنهيت الحرب الباردة، أعيد الحديث مجددا، عن نهاية سايكس بيكو، واتخذ الامريكيون من منبر السلام، في مدريد عام 1990م، محطة الإعلان عن التصور الأمريكي الجديد لعالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولمنطقتنا بشكل خاص. فقد اشار وزير الخارجية الامريكي آنذاك، جيمس بيكر عن احتضار اتفاقية سايكس بيكو، والتهيؤ لانبثاق نظام دولي جديد، تنتفي فيه الحدود، وتضعف فيه سيادة الدول.
تماهت تنظيرات العولمة، وانتهاء سيادة الدول، برؤية المحافظين الجدد، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد وصول الرئيس جورج بوش الابن لسدة الرئاسة، في ضرورة إعادة تشكيل البناء الفلسفي للفكر السياسي الغربي، بحيث يكون منسجما مع نزعة الهيمنة والسيطرة، التي اعتمدتها إدارة الرئيس جورج بوش الابن، والقائمة على احتقار المؤسسات والهيئات الناظمة للعلاقات الدولية، كهيئة الأمم المتحدة، والمنظمات التابعة لها، وعدم احترام قراراتها.
لقد ارتبطت فلسفة العولمة، وانتهاء سيادة الدول بمرحلة الأحادية القطبية، وهي مرحلة لم تتجاوز العقدين من الزمن. ومن حسن طالع الوطن العربي، أن الحركة الاحتجاجية، التي شهدتها عدة دول عربية، ومحاولة الغرب ركوب موجتها، لتحقيق أجندته في الفوضى الخلاقة، قد جاءت في نهاية مرحلة الهيمنة القطبية الواحدة. إن ذلك يشي بأن مرحلة الانفلات السياسي والأمني بالوطن العربي، لن تستمر طويلا. وأن مرحلة جديدة، ستبلج من آلام الضحايا والمقهورين، مرحلة تعيد الاعتبار لمفهومي الاستقلال والسيادة، ولسوف تشهد المرحلة القادمة بشائر انتهاء مرحلة الهيمنة.
فهناك دعوات جديدة، لتجديد الإيمان بروح اتفاقيات ويستفاليا عام 1648م، التي رسمت حدود الدول الأوروبية. وهناك بداية تنظير لنظام دولي جديد، يهدف إلى وضع مسائل الحرب والسلم في عهدة القانون الدولي والأمم المتحدة. والتحذير من أخطار الهيمنة على التوازن الدولي والاقتصاد. واعتماد الحلول السلمية، بديلا عن الحلول العسكرية.
وفي هذا السياق، ينصح هنري كيسنجر، مستشار الرئيس الأمريكي ريشارد نيكسون لشئون الأمن القومي، ووزير خارجيته فيما بعد، في كتابه الموسوم بـ«النظام العالمي»، بالاعتراف بحصول تبدل في موازين القوى في العالم، وبالتخلي عن السلاح، في حل النزاعات، لأن السلاح يلغي الحضارات والقيم ويعبث بالتوازن.
هناك قوى أخرى، صعدت بقوة على الصعيد العسكري والاقتصادي، كألمانيا والهند واليابان، ولن تقبل هذه القوى، أن تكون مغيبة عن المشاركة في صنع القرار، في ظل التعددية القطبية المرتقبة. كما أن دول أمريكا اللاتينية، كالبرازيل، تتطلع إلى دور مشارك في صنع القرارات الأممية. وقد برزت مجموعة البريكس وشنغهاي، ومنظمات مماثلة في أمريكا اللاتينية، معبرة عن التغير في موازين القوى الاقتصادية والعسكرية الدولية.
سيكون العالم بين خيارين، إما إلغاء الأمم المتحدة، وتشييد منظمة دولية جديدة، معبرة عن الحقائق الجديدة، في عالم القوة. أو إعادة هيكلة الأمم المتحدة، بحيث تعبر عن الحقائق الجديدة. وفي هذا المضمار، يجدر الحديث عن مجلس الأمن الدولي، وحق النقض فيه. لقد اكتسبت فرنسا وبريطانيا هذا الحق، كنتيجة لإفرازات الحرب العالمية الثانية، وكونها ملحقة بالمنتصرين في تلك الحرب، وليس بسبب قوتها الاقتصادية والعسكرية، ولن تقبل الدول الصاعدة استمرار الحال على ما هو عليه.
الأخطر في هذه المرحلة، أننا أمام حقبة آفلة، وحقبة أخرى، لم تتشكل بعد. وخطورتها أنها مرحلة انفلات دولي، وترجرج للقيم الناظمة للعلاقات بين الأمم. وليس تغول طحالب الإرهاب، كالقاعدة وداعش وجبهة النصرة، والميليشيات الطائفية والقبلية، كما هو الحال في العراق وليبيا، سوى بعض مظاهر مرحلة الانتقال من نظام دولي إلى نظام دولي آخر.
تلك هي بعض مؤشرات النظام الدولي الجديد، وهي مؤشرات تفضح أنه ليس بمقدور العالم، القبول باستمرار الانفلات الدولي. ولا مناص من استعادة مفاهيم الاستقلال والسيادة وحق تقرير المصير، وإعادة الاعتبار لمفهومي الأمة والدولة. والعولمة في المبتدأ والخبر، إذا جردت من السطو وسحق الكرامة، هي منجز إنساني إيجابي، لا ينبغي أن يهدر، بل ينبغي أن يكون في خدمة البشرية جمعاء.