«مهندس تركيا الرئاسية»، ومن قبل مهندس المشاريع العملاقة، الحليف الموثوق، الذي اصطفاه الرئيس رجب طيب اردوغان لمنصب قد يكون آخر من يشغله إن أفلح في نقل البلاد إلى «عهدة جديدة»، طالما أثارت– ولا تزال– جدلاً بين الحلفاء والخصوم على حد سواء.
وزير مخضرم، أسر عقل أردوغان بعمله، مستلهماً من «اسمه» نهجاً في الإنجاز، ليصير- تالياً- ركناً ركيناً في «رباعية» تصنع القرار التركي وتخط مستقبل البلاد، ولتقوده الأقدار إلى خلافة رجل السياسة العتيد أحمد داوود أوغلو، الذي غادر منصبه– للتو- مختاراً طريقاً جديداً لم تتضح معالمه بعد.
بن علي يلدرم، أو بنالي يلدرم (وفق اللفظ التركي)، رئيس وزراء تركيا الجديد، ورئيس حزب العدالة والتنمية المنتخب حديثاً، المولود (في 20 ديسمبر 1955) لعائلة متواضعة الحال، لا يعرف عنها الكثير، باستثناء أن أباه هو دورسون وأمه باهار، التي غادرت الحياة حين كان طفلاً في السادسة عشرة من عمره.
مسقط رأس بن علي يلدرم قرية تدعى «قايي»، تتبع لمنطقة رفاهية بولاية أرزينجان، شمال شرقي البلاد، التي اشتهرت بإنتاجها لجبنة تركية شهيرة، تسمى «تولم بنين»، ومنها ذاع صيت الولاية، التي غادرها في وقت مبكر، وانتقل– برفقة عائلته- إلى مدينة إسطنبول، ملتحقاً بمدرسة «بيري ريس»، الإعدادية، ومن ثم مدرسة «قاسم باشا» الثانوية، التي غادرها (عام 1973) إلى جامعة إسطنبول التقنية، ليتحصل منها على شهادته الجامعية الأولى.
ثمة ما يُروى في دراسة يلدرم الجامعية، التي تخصص فيها بـ «العلوم البحرية وبناء السفن»، على غير رغبته، التي انحصرت في دراسة الهندسة الميكانيكية، إلا أن امتلاء المقاعد بكلية الهندسة دفع أحد المدرسين إلى نصحه بعدم تفويت الفرصة، والتسجيل بكلية العلوم البحرية وبناء السفن.
قبيل تسجيله في جامعة إسطنبول، سعى يلدرم إلى الدراسة في جامعة البوسفور، ذائعة الصيت آنذاك، إلا أنه غيّر من وجهته حين شاهد الطلبة والطالبات يجالسون بعضهم داخل الحرم الجامعي، وهو ما اعتبره منافياً لما استقرت عليه عقيدته، التي على ما يبدو كانت قد تبلورت في اتجاه إسلامي باكراً.
أكمل يلدرم، بعد إنهائه درجة البكالوريوس، تعليمه العالي في السويد، التي انتقل إليها لنيل درجة الماجستير من جامعة الملاحة البحرية الدولية، التابعة للمنظمة الدولية للملاحة البحرية.
بن علي يلدرم، وخلال دراسته لدرجة البكالوريوس، وتحديداً عام 1975، التقى بالسيدة سميحة، التي تزوجها، وأنجب منها 3 أبناء، هم: بولنت، أرقم، بشرى؛ فيما لا تُورِد المصادر ذكراً لزوجته إلا في سياق انتقاد الزوج، الذي شوهد– عام 2004- وهو يتناول طعام الغداء برفقة بعض الرجال، فيما زوجته تتناول الطعام على طاولة جانبية وبشكل منفرد.
ويرى خصوم يلدرم حادثة الطعام مؤشراً على ممارسته التمييز بين الجنسين، وهي حادثة أثارت جدلاً واسعاً في تركيا، رغم أن زوجته سميحة سيدة محجّبة، إلا أن الأمر تجاوز الحرية الشخصية إلى محاولة اغتيال الرجل سياسياً.
البدايات العملية، لرئيس الوزراء التركي الجديد، اتسمت بحيوية كبيرة، وصعود سريع، قد يكون مستمداً من اسم عائلته، فـ «يلدرم» كلمة تركية تعني بالعربية «الصاعقة»، وقد كانت سيرته كذلك، إذ يقول- عن نفسه- «أتحدث قليلاً، وأعمل بسرعة، إنه اسم عائلتي».
بدأ يلدرم حياته العملية (عام 1978) بالعمل في وظائف إدارية متعددة بمديرية صناعة السفن، تعرّف خلالها على أردوغان، الذي أُعجب بعمله، ليعيّنه- حين تسلم رئاسة بلدية إسطنبول- مديراً لشركة الحافلات البحرية التابعة للبلدية.
تسلم يلدرم إدارة الشركة، وخلال سنوات 1994– 2000 استطاع تنفيذ سلسلة مشاريع لتحويل وجهة النقل العام في إسطنبول باتجاه البحر، بما جعل «شركة الحافلات البحرية بإسطنبول» من أكبر الشركات في مجالها على مستوى العالم.
في يونيو 2001 سعى «تيار المجددين» في «حزب الفضيلة الإسلامي»، الذي كان يقوده الراحل نجم الدين أربكان وحلّته السلطات في بداية العام نفسه، إلى تأسيس «حزب العدالة والتنمية»، ليكون يلدرم واحداً من أهم معاوني أردوغان، ومرافقاً لصعوده في بنية السلطة التركية، فخاض إلى جانبه الانتخابات البرلمانية (في 3 نوفمبر 2002) ممثلاً عن إسطنبول، وارتقى ليكون وزيراً للنقل والمواصلات في أول حكومة للحزب منذ تأسيسه.
يلدرم، وزير النقل، الذي حافظ على منصبه الوزارى 11 عاماً، وعبر 6 حكومات من أصل 7، وهي الحكومات ذات الأرقام 58 و59 و60 و61 و62 و64 للجمهورية التركية، بات الوزير الأطول بقاء في منصبه على مر تاريخ الدولة.
في منصبه الوزاري، الذي استمر به حتى عام 2013، أنجز يلدرم العديد من الأعمال، التي بدأها بإيجاد حلول لمشكلات النقل والمعلوماتية، وانتقل بعدها إلى تنفيذ العديد من «المشاريع العملاقة»، وهي مشاريع خلّدت اسمه في ذهنية المواطن التركي لما تركته من أثر بالغ في التشبيك بين أواصر البلاد.
ويُسَجّل للوزير يلدرم إنجازه 24 ألف كم من الطرق الرابطة بين الولايات التركية، وتنفيذ مشاريع القطار السريع والسكك الحديدية الداخلية والدولية، والربط بين الشطرين الآسيوي والأوروبي لمدينة إسطنبول، عبر شبكة معقدة من الإنفاق والسكك الحديدية.
عُرف بن علي يلدرم بوعوده التي يصدقها العمل، ومع توليه وزارة النقل وعد الأتراك بـ «إتاحة النقل الجوي لعموم الشعب»، وهو ما كان بزيادته لعدد المطارات من 26 إلى 55 مطاراً، وعدد الركاب من 34.4 إلى 182 مليون راكب، فضلاً عن إنشاء أكبر مطارات العالم، الذي ستفتتح مرحلته الأولى عام 2018.
وعلى صعيد الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حققت تركيا في فترة وزارة يلدرم، نجاحات كبيرة، إذ ارتفع عدد مستخدمي الهواتف المحمولة من 23 إلى 73.2 مليون مستخدم، وتضاعف حجم التجارة الإلكترونية 21 ضعفاً، ليرتفع من 900 مليون إلى 18.9 مليار ليرة تركية، إضافة إلى إدخال تقنية G4.5، التي تؤسس للانتقال إلى شبكة الجيل الخامس 5G.
ورغم نجاحاته العملية، لم تخل سيرة الرجل الصاعد من انتقادات لاذعة، بلغ بعضها حد توجيه المعارضة أصابع الاتهام له بالفساد، وهو ما دفعه إلى تحديها لإثبات تورطه بأي أمر، غير أنها عجزت عن تحديه!.
كذلك، نالت من يلدرم انتقادات حادة إثر تصريحات مثيرة للجدل، رافقت توليه لوزارة النقل، حول مراقبة الحكومة التركية للمكالمات الهاتفية، قال فيها: «إذا لم تكن بصدد عمل مخالف للقانون، لماذا تقلقك المراقبة»، وذلك في سياق رده على المعترضين لذلك النهج.
على الصعيد السياسي، بدت حظوظ يلدرم قوية في صعود السلطة السياسية في البلاد، وظل اسمه يتردد في كل المفاصل كمرشح قوي، خاصة أنه حظي على الدوام بدعم الرجل الأقوى في تركيا، طيب رجب أردوغان، الذي دعمه لاعتبارات كفاءته العملية، وتالياً لدفاعه الشرس وولائه المطلق.
العارفون بالشأن التركي يدركون أن في قصر الرئاسة، المعروف بـ «القصر الأبيض التركي»، ثمة «رباعي يصنع السياسة»، إلى جانب رئيس الجمهورية، أحدهم يلدرم، صاحب الكلمات الرزينة، والرؤية الهادئة المتوازنة في الأمور الداخلية والخدماتية للبلاد، فيما يقابله وزير الداخلية «إيفكان ألاء»، والمستشار الاقتصادي «يغيت بولط» المثير للجدل، والمستشار الإعلامي «أيدن أونال»، الذي يكتب لأردوغان ما يقوله.
«التركيبة الرباعية» لم تكن الوحيدة التي يطمح إلى بلوغها يلدرم، إذ سعى المهندس الصاعد إلى التقدم في هرم السلطة، ليس ليكون على رأسها، بل خلف أردوغان مباشرة، وهو المسعى الذي أخفق فيه حين حظي بترشيح غالبية قيادات حزب العدالة والتنمية، إلا أن اختيار أردوغان لـ «أحمد داود أوغلو» دفعه إلى التراجع، لتعاود فرصه الصعود مجدداً باستقالة أوغلو من رئاسة الحزب وبالتالي الحكومة.
استقالة أوغلو، التي جاءت في سياق خلافي مع أردوغان، فتحت الطريق أمام يلدرم ليبلغ سدة «حزب العدالة والتنمية» بانتخابه زعيماً له (في 22 مايو 2016)، وبالتالي ليكون– بالضرورة- رئيساً للوزراء، وفق ما يقضي به الدستور التركي.
حين بلغ أردوغان «القصر الأبيض» سارع إلى تعيين يلدرم مستشاراً خاصاً منذ ذلك الحين، ليتضح أن الرجل ليس مستشاراً فقط، بل هو «رئيس حكومة الظل»، والعقل الناظم لـ 13 مستشاراً يخططون فعلياً سياسة تركيا الداخلية والخارجية، ما يجعله مسؤولاً مباشراً– بشكل أو بآخر– عن مجمل المواقف والتوجهات التركية.
تصنف أدبيات السياسة التركية يلدرم باعتباره «زعيم تيار الصقور» في حزب العدالة والتنمية، وهو «تيار يميني– قومي» يتبنى «الخطاب الأناضولي»، المتطابق تماماً مع ما بات يُعرف بـ «الخطاب الأردوغاني»، ولعل هذا ما ظهر واضحاً في أول تصريح للرجل عقب إنهاء سيطرة «الخطاب الأكاديمي»، الذي تبناه أوغلو خلال العامين الأخيرين.
ثمة «تحولات إستراتيجية» تشهدها تركيا، بدأت بـ «التعديلات الدستورية»، التي نقلت شكلياً «مركز السلطة» من «رئاسة الحكومة» إلى «رئاسة الجمهورية»، وهي خطوة جزئية في سياق تحوّل النظام السياسي التركي إلى «نظام رئاسي»، بينما شكلت انتخابات الرئاسة، التي جرت في 10 أغسطس 2014، الخطوة العملية الأولى في هذه التحولات، الأمر الذي يعترف به الرئيس أردوغان، ويراه- إرساء النظام الرئاسي– «خدمة لتركيا».
لكن، لا تزال «البنية التشريعية التركية» تتضمن قيوداً تحد من استكمال تلك التحولات، خاصة الشق المتعلق بتوزيع الصلاحيات والقوة بين الرئاستين، الدولة والحكومة، وهي القيود ذاتها التي فاقمت الخلاف بين أردوغان وتياره من جهة، ورئيس الحكومة السابق أوغلو، ودفعت بالأخير إلى الاستقالة من الموقع الرسمي، الذي خَلَفه فيه بن علي يلدرم.
يتنازع تركيا، في تحولات النظام السياسي، تياران رئيسيان، الأول يتمسك بالنظام البرلماني، ويعتبره دعامة لتقدم الدولة الديمقراطية في تركيا، ويناصر هذا التيار رئيس الوزراء المستقيل والعديد من قوى المعارضة؛ أما الثاني، الذي يتمثل في تيار الصقور بحزب العدالة والتنمية، ممثلاً بأردوغان ويلدرم، فيرى أن النظام البرلماني أنهك البلاد، لما يفرضه عليها من «حكومات ائتلافية»، عجزت عن تحقيق نجاحات ملحوظة، وأدت إلى هدر مالي أثّر بشكل سلبي في الواقع الاقتصادي، ويطالب بالتحول إلى «النظام الرئاسي».
ويشكل وصول يلدرم إلى سدة الحكومة التركية دعامة إضافية للتيار المطالب بالنظام الرئاسي، ويحيل الرجل إلى فاعل مركزي في التحولات الداخلية، خاصة أن تجربته العملية ارتبطت بشكل وثيق بالقضية الداخلية، أكثر من ارتباطها بالمسائل الخارجية.
رئيس الحكومة الجديد، الذي حظي بثقة البرلمان التركي قبل نحو أسبوع فقط (تحديداً في 29 مايو 2016)، يحمل أجندة عمل مُتخمة بالشأن الداخلي، ستستهلك جزءاً كبيراً من جهوده في المرحلة المقبلة، وتتضمن محاور رئيسية يمكن إيجازها في:
أولاً: النظام الرئاسي: سيعمل يلدرم على استقطاب مؤيدين جدد لعملية التحول إلى النظام الرئاسي، سواء من داخل حزبه أو من صفوف أحزاب المعارضة، التي سيكون عليه مواجهتها في البرلمان لإقرار أية تعديلات دستورية أو قانونية، خاصة فيما يتعلق بتغيير المواد 101 و104 و105 و109 و112 و117، وهي نصوص دستورية تمنح رئيس الوزراء مسؤولية واسعة، داخلياً وخارجياً، فيما تُقيّد سلطات رئيس الدولة وتعرقل التحوّل الجوهري للنظام إلى «الرئاسي»، هذا فضلاً عن ضرورة تمرير نص دستوري من شأنه السماح للرئيس بعضوية الأحزاب، الأمر المحظور عليه حالياً.
ثانياً: العنف الداخلي: تعاني تركيا من «العنف الداخلي»، ممثلاً بأنشطة «حزب العمال الكردستاني»، التي يعتبرها «القوميون الأتراك» إرهاباً يستدعي مواجهته، والعمل على اجتثاثه، وهي المواجهة العسكرية المستمرة عبر الحكومات المتعاقبة، التي يرى يلدرم ضرورة مواصلتها حتى «سحق الإرهابيين».
ثالثاً: قيم الديمقراطية: يشكل الحفاظ على قيم الديمقراطية– الجمهورية في تركيا واحداً من التحديات الرئيسية لنظام الحكم، خاصة في ظل سيرة طويلة من الانقلابات العسكرية، وأيضاً في ظل نفوذ «المؤسسة العسكرية»، التي ستكون في مواجهة من نوع ما مع التحولات الرئاسية الجارية، وبالتالي سيكون يلدرم أمام تحدي إبقاء العسكر في ثكناتهم، بعيداً عن التدخل في مجريات العملية السياسية.
رابعاً: الملف الاقتصادي: الأزمة السورية فرضت أعباء اقتصادية ضخمة على الدولة التركية، التي تعتبر لاعباً رئيسياً في الإقليم، خاصة مع حجم تدفقات اللاجئين السوريين عبر الحدود، وهو التدفق المتوقع استمراره تزامناً مع توظيفات «نظام بشار الأسد» وحلفائه لآلة القتل في مواجهة المعارضة، الأمر الذي تنظر إليه الحكومة بعين القلق وتعمل على تجنيب الاقتصاد التركي آثاره، وهي المهمة الصعبة على أجندة يلدرم، خاصة في ظل «مراجعات عميقة»، يجريها الحزب، لـ «الخطط التنموية» و«الإدارات الاقتصادية».
أما في الملف الخارجي، فلا تشي غالبية الدراسات المتخصصة بالسياسة الخارجية التركية بوجود تغييرات جوهرية، إذ يتوقع أن تحافظ الرئاسة والحكومة التركية على ذات النهج فيما يتعلق بالصراع في سورية، وكذلك الأمر في العلاقات مع روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، خاصة في ظل التوافق والتناغم بين أردوغان ويلدرم.
بن علي يلدرم، أو مهندس النظام الرئاسي، سيكون في المرحلة المقبلة اللاعب الأهم في الداخل التركي، الذي سيعمل عليه لأجل التحولات التي يؤمن بها، وربما يكون من نظّر لها، وأرسى قواعدها النظرية، وربما العملية، في الحلقة الضيّقة المحيطة بالرئيس التركي.
يلدرم والرئيس التركي أردوغان