جاء قرار قمة الرياض التشاورية بتأسيس هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية ليعطي دفعة جديدة وكبيرة للعمل الاقتصادي المشترك، الذي كان بحاجة بالفعل لتشريع خطى التعاون والتنسيق خاصة بعد إعلان الرياض الذي صدر عن القمة الخليجية في نهاية العام الماضي ولا سيما فيما يخص الدعوة للتنفيذ الكامل للمواطنة الخليجية والاتحاد الجمركي الموحد والسوق الخليجية المشتركة.
ونحن نعتقد أن الهيئة، خاصة إذا ما أنيطت بها الصلاحيات المطلوبة، فسوف تعمل على عدة محاور أهمها تسريع تنفيذ برامج التكامل الاقتصادي، ووضع حلول مشتركة للتحديات التنموية التي تواجه دول المجلس بعد تراجع الإيرادات النفطية، وكذلك البت في قضايا المفاوضات التجارية مع المجاميع الإقليمية الخارجية.
فعلى صعيد تسريع خطة التكامل الاقتصادي الخليجي، هناك شعور بحاجة دول المجلس لآليات تنفيذ فاعلة تتجاوز مرحلة القوانين الاسترشادية والاستراتيجيات البعيدة المدى والقرارات العليا إلى مرحلة آليات وبرامج التنفيذ الملزمة والقرارات التنفيذية لقرارات القمم. البداية الصحيحة يجب أن تكون بقرار سياسي يعطي صلاحية اتخاذ القرارات وإلزامية تنفيذها في كل ما يخص التكامل الاقتصادي الخليجي والمواطنة الخليجية بيد مؤسسات العمل المشترك الخليجية كما هو الحال بالنسبة للتجربة الأوروبية.
ولعل تأسيس هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية يجسد هذا التوجه، حيث يلاحظ على صعيد محطات التكامل الاقتصادي الرئيسة وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود ونصف على تأسيس المجلس أن العديد من الخطوات والقرارات الهامة لا تزال لم تحسم بعد بما في ذلك آليات احتساب القيمة الجمركية وصندوق الإيرادات الجمركية وتوزيعه والتعويضات. كما أن توحيد التعرفة الجمركية لا يعني قيام الاتحاد الجمركي الموحد، فعلى الرغم من اختفاء القيود الجمركية على التبادل التجاري البيني، فان المعوقات الجمركية الأخرى كشهادات المنشأ والقيمة المضافة والمقاييس جميعها لم تحل بعد، إلى جانب القيود غير الجمركية ولاسيما تلك التي تحصل في المنافذ الجمركية التي لا تزال تأخذ حيزا كبيرا من اجتماعات وزراء المالية والاقتصاد والأجهزة المعنية.
وبخصوص السوق الخليجية المشتركة فان الخطوات لا تزال كثيرة لتحقيق هذا المطلب، حيث لا يزال هدف تكامل أسواق المال الخليجية وفتحها دون قيود في مرحلة الدراسة ما يعني غياب العمق الاستثماري الخليجي أمام مواطني دول المجلس. كذلك بالنسبة لفتح فروع للبنوك التجارية في بعض الدول الأعضاء. كذلك الحال بالنسبة لحرية العمل التجاري حيث إن تأسيس الشركات الخليجية لا يزال بحاجة إلى شريك مواطن، كذلك شرط الإقامة في بعض دول المجلس، علاوة بالطبع على تأخر التعرفة الجمركية وتوحيد السياسات التجارية.
أما بالنسبة لحرية حركة الأفراد وخاصة في أسواق العمل - وهي شرط آخر لقيام السوق الخليجية المشتركة- فمما لاشك فيه أن دول المجلس حققت خطوات متقدمة في مجال التنمية البشرية، حيث جاءت جميعها في مراتب متقدمة في مؤشرات التنمية البشرية والإنسانية عربيا ودوليا، ولاشك أن التعليم والتدريب يحظيان بأولوية في الوقت الحاضر، خصوصا مع بروز معدلات بطالة ملفتة للنظر في دول تستضيف نحو 18 مليون عامل أجنبي. الا أنه تغيب لحد الآن معالجات خليجية موحدة لمشكلة البطالة، حيث يذكر تقرير للأمانة العامة لدول المجلس أن الأمانة أنجزت دراسة «البطالة في دول المجلس وكيفية معالجتها» وإعداد تقرير مقارنة لدراسات البطالة الأولية المعدة على مستوى الدول الأعضاء تمهيداً لتكليف خبير استشاري لإعداد الدراسة وعرضها على اللجنة الوزارية للتخطيط والتنمية. وكردّ على الحديث بأن تجربة الاتحاد الأوروبي استغرقت 50 عاما لكي تصل إلى الوحدة الاقتصادية والسياسية، يقول خبراء ان نقطة البداية لهذه الدول تختلف تماما عن واقع دول المجلس سواء من حيث الوضع التاريخي، أو حالة الدمار الذي كانت تعيشه تلك الدول في أعقاب الحرب العالمية الثانية أو حجم ونوعية عوامل الوحدة التاريخية والثقافية والدينية والقومية التي تجمع دول التعاون اليوم.
وثانيا، فيما يخص تصدي هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية لوضع حلول للتحديات التنموية الخليجية، فلا شك ان الإعلان عن رؤية السعودية 2030 يمثل مثالا لحجم التحديات التي تواجه الاقتصاديات الوطنية الخليجية وما هو مطلوب للتصدي لها، وفي مقدمة ذلك الحاجة لضبط الموازنات العامة وخفض العجز فيها، وإعادة جدولة الأولويات في الانفاق الحكومي من خلال التركيز على الانفاق الاجتماعي والانفاق المنتج، فضلاً عن ضبط معدلات التضخم وأسعار السلع الاستهلاكية بشكل خاص، كي لا يترافق التراجع في أسعار النفط مع ضغوط اجتماعية ومعيشية. كما يتوجب على الحكومات الخليجية خلق محفزات لإعادة تنشيط الطلب المحلي، عبر تشجيع المصارف على زيادة الإقراض المحلي وخاصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ورواد وسيدات الأعمال، ومن ثم رفع حجم السيولة لدفع العجلة الاقتصادية، بالإضافة إلى التركيز على ضبط العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
كما أن أي اصلاحات في الانفاق العام لا بد أن تمر عبر إصلاحات حساسة بالنسبة للمجتمعات الخليجية وفي المقدمة منها موضوع دعم الطاقة. وبالرغم من التكلفة الباهظة، فان الدعم للطاقة والمحروقات أثبت عدم فاعليته، حيث إن ما يسمى بالدعم المعمم للأسعار - وهو أكثر أشكال الدعم شيوعا في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا - لا يستهدف الفئات المستحقة ولا هو مردود التكلفة كأداة للحماية الاجتماعية.
وثانيا تبرز أهمية حماية الاقتصاديات الخليجية من تأثيرات الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية، وذلك بخفض تركز الاستثمارات في الدول الأجنبية التي تواجه مشكلات اقتصادية ومالية خطيرة، والعمل بالمقابل على تنويع استثماراتها والتوجه إلى الدول الصاعدة والنامية، ومن بينها الدول العربية. كما يتوجب رفع مستويات الاستثمار في قطاعات الاقتصاد الحقيقي كالصناعة.
وأخيرا، تبرز الحاجة لهيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية في مجال توحيد المصالح الاقتصادية الخليجية في المفاوضات التجارية والاقتصادية مع العالم الخارجي، ولا سيما الشركاء التجاريين الرئيسيين. ولكي تتحقق الاستفادة الأعلى من هذه الاتفاقيات لا بد من وجود خطوات وجهود خليجية منسقة من أجل خلق قاعدة تصديرية منوعة وواسعة سواء تصدير السلع أو الخدمات فهي وحدها التي تحقق الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة. ويتحقق ذلك من خلال تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في كافة الأنشطة الاقتصادية.