إذا أجيز لهذه القراءة أن تستعير من توماس كون، فإن التقدم بالعلوم والأفكار، لا يكون نتاج تراكم تاريخي تدريجي فقط، بل هو في الغالب حصيلة ثورات علمية، تدفع بنا للتخلي عن فرضيات سابقة، وتبني نماذج عمل جديدة، بما يسهم في الاقتراب من تحقيق الأهداف الكبرى، لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية.
لكن هذه المقولة ينبغي أن لا تلغي العلاقة بين الخاص والعام. ويفهم العام بالعلوم السياسية، بأنه التجسيد الحي لما يمثل إجماعا في مرحلة تاريخية معينة. أما الخاص، فيمثل نقطة التحول، من مرحلة إلى أخرى، ويكون في مراحله الأولى موضوعا خلافيا.
من هذه المقدمة، نطل على الاتحاد الأوروبي، والتطورات التي حكمت مسيرته، والتداعيات المرة، التي يشهدها الآن، على ضوء اختيار البريطانيين، بعد أكثر من أربعة عقود على انضمامهم، الانسحاب منه، وما يعنيه ذلك من مخاطر على وجود الاتحاد، وانبثاق أزمات اقتصادية وسياسية، بالقارة الأوروبية في المستقبل.
فقد اختار البريطانيون، في اقتراع عام، الخروج من الاتحاد الأوروبي. وذلك يعني بداهة، أن المملكة المتحدة، وهي القوة الاقتصادية الثالثة في القارة الأوروبية، لم تعد جزءا من وحدة أوروبا. وعلى الرغم من رؤية الكثير من المحللين السياسيين أن الوقت لا يزال مبكرا للتنبؤ بالأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية لهذا الحدث، إلا أن الكثير من المؤشرات يجعل من قراءة الحدث والتنبؤ بحيثياته أمرا مشروعا. فليس بالإمكان التشكيك في أن الحدث بحد ذاته يمثل شرخا كبيرا، في حلم كبير ظل يراود الأوروبيين، لأكثر من سبعة قرون، منذ أيام الحروب الصليبية، وتغنى به الأدباء والشعراء، ومثل تحقيقه بالنسبة للأوروبيين وللعالم ما هو أقرب إلى المعجزة. وقد جعل قيام الاتحاد الأوروبي من القارة الأوروبية القوة الاقتصادية الثانية عالميا، بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
وينبغي في هذا السياق التأكيد على أن المشاريع التاريخية الكبرى لا تنجز بين ليلة وضحاها، بل تكون نتاج عمل مثابر ودؤوب، وفعل تراكمي، يضيف باستمرار إلى ما تحقق، ويترك الأبواب مفتوحة لإضافات أعلى. وبديهي جدا أن تعترض الرحلة مصاعب ومطبات، ربما تجعل المشروع يتوقف لفترة ما، أو تؤدي إلى تراجعه خطوة أو خطوات إلى الوراء، عند بعض المنعطفات. لكن الإصرار والعناد، والإيمان بالهدف، عناصر كفيلة بالتغلب على المعوقات، وتحويل العلم إلى واقع معاش.
وضع الاتحاد الأوروبي، في هذا السياق، لا يذهب بعيدا عن هذا التوصيف. فقد استمرت خطوات تنفيذه قرابة سبعة عقود، وانتقل عبر محطات صعبة، وعايش أزمات اقتصادية عالمية حادة، لعل الأبرز منها الأزمة التي مرت بها أمريكا والعالم عام 2008، والتي بدأت بأزمة الرهن العقاري.
وجد الأوروبيون في تحقيق الاتحاد فيما بينهم إنقاذا للقارة الأوروبية من حروبها مع ذاتها، ومن احتمالات تحقق انتحار جماعي في حروب ربما تكون أعتى وأقسى من الحربين العالميتين المدمرتين. فكانت محطتهم الأولى على طريق الإنقاذ هي تبني مشروع فرنسي جريء، استهدف وضع الفحم والصلب تحت سيطرة أوروبية مشتركة.
لم يكن اختيار الفحم والصلب كقاعدة انطلاق نحو وحدة القارة الأوروبية اعتباطا، بل كان أمرا حيويا وجوهريا لإنجاح مشروع الوحدة. فالفحم والصلب هما عصب الصناعة العسكرية، ووضعهما تحت سلطة أوروبية مشتركة تسهم فيها بشكل أساسي الدول التي تضررت من النزعة الهتلرية، ستساعد كثيرا في تبديد مشاعر الخوف والقلق من عودة ألمانيا «العسكرية» إلى الواجهة. والمشروع من جهة أخرى، بالطريقة التي انطلق بها، هو موضع ترحيب من الألمان، فقد وجدوا فيه فرصة تخلصهم من القيود التي فرضتها عليهم نتائج الحرب العالمية الثانية، باعتبارهم قوة مهزومة.
إضافة إلى ذلك، فإن كلا القطاعين: الفحم والصلب يرتبطان بصناعات اقتصادية أساسية أخرى، بما يغري الفعاليات الاقتصادية الأخرى، بمختلف أشكالها، على الالتحاق مستقبلا بمشروع الشراكة، وبالتالي التسريع بالوحدة.
لقد ارتبطت الوحدة الأوروبية، منذ البداية، بمفهوم الضرورة التاريخية، دون ارتباط بعوامل التاريخ واللغة والثقافة، وكان المشروع منذ بدايته مصلحيا وبراجماتيا بامتياز، ومرتبطا بقانون المنفعة، ولم يكن فيه مكان لشحنات عاطفية، أو مشاعر وأحاسيس وارتباطات وجدانية. وفي وضع كهذا تكون عوامل المصلحة والمنفعة هي وحدها الجديرة بالاعتبار في كل محطات تنفيذ المشروع.
عوامل المنفعة جعلت كل طرف من أطراف الشراكة الأوروبية يسعى إلى الحصول على مكاسب أكبر جراء عملية التوحيد، وذلك أمر طبيعي ومتسق مع نواميس الكون، وهو أيضا أمر مشروع، حين لا يكون استئثارا، أو تهميشا لأدوار الشركاء الآخرين. كان طبيعيا أيضا، أن يمر مشروع الاتحاد الأوروبي بمشاكل ومعوقات، بسبب التراكمات التاريخية السلبية، وأيضا بسبب الحقائق التي أفرزتها الحرب الكونية الثانية. وفوق ذلك كله، بسبب إفرازات النظام العالمي الجديد الذي تشكل بعد الحرب.
فبالنسبة للتراكمات التاريخية، برز قلق فرنسي من تنامي الدور الألماني، بعد اشتعال الحرب الباردة، بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. وقد شاطر عدد من البلدان الأوروبية من ضمنهم بلجيكا وهولندا، وبقية الدول التي وقعت تحت القبضة النازية، القلق الفرنسي.
أما ما يتعلق بالحقائق التي أفرزتها الحرب الكونية الثانية، فقد كان من نتائجها أن قيدت ألمانيا بعدة قيود تحد من قدرتها على الحركة، وهي قيود ارتبطت بهزيمتها واستسلامها العسكري أمام الحلفاء. وهناك أيضا انشطار أوروبا إلى كتلتين مختلفتين في أنماطهما السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، كتلة رأسمالية في الغرب من القارة الأوروبية، وكتلة اشتراكية في شرقها.
وبالنسبة لإفرازات النظام الدولي، الذي برز بعد الحرب، فهناك تنامي النزعة الاستقلالية لدى فرنسا الديغولية. ومن جهة أخرى، تماه شبه تام في السياستين الأمريكية والبريطانية، لدرجة جعلت الرئيس الفرنسي الراحل، شارل ديغول، يضع فيتو، لما يقرب من عقد من الزمن، على انضمام بريطانيا للسوق الأوروبية المشتركة، معللا ذلك بتبعية بريطانيا الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الحقائق مجتمعة كانت السبب في تأخر مسيرة الاتحاد الأوروبي، وإعاقة انطلاقته بالسرعة المأمولة، وتأخير إعلان قيام المواطنة الأوروبية، لما يقترب من نصف قرن، تم تجاوزها في النهاية، بالتصميم والإرادة، ووعي قادة أوروبا وشعوبها لدور الكتل الإنسانية الكبرى في صناعة القوة بكل تشعباتها.
من بين المصاعب التي اعترضت مسيرة الاتحاد الأوروبي قضية توزيع الكوتا، المعبرة عن ثقل كل دولة في الاتحاد، تبعا للكثافة السكانية، والقوة الاقتصادية. وكانت هناك مسألة توزيع كلف الميزانية بين الأعضاء، وحصة كل دولة فيها. وقد تحملت فرنسا وألمانيا العبء الأكبر من الميزانية، بما رتب لهما حقوقا مضافة. واستمر ذلك حتى يومنا هذا. وهناك أيضا توزيع المكاسب والمنافع، وموقع المراكز الاتحادية.
لكن الحلم تحقق في النهاية، وتحول إلى أمر واقع. لقد جاءت نتائجه متماهية مع لغة العصر، التي ترى في التكتلات الاقتصادية الكبرى مصدر قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية، وأن استمراره سيجعل من القارة الأوروبية قوة لا تضاهي على كل الأصعدة. وبالإمكان، على ضوء هذه المسلمات، وفي هذا المنعطف الخطير من مسيرة الاتحاد، تصور ماذا يعني انهيار هذا الحلم بالنسبة للأوروبيين، الذين راهنوا على استمرار الوحدة، رغم التحديات التي واجهها الاتحاد منذ تأسيسه في مطالع السبعينيات من القرن المنصرم. فالولادة لم تكن يسيرة أبدا، ولم تكن الطريق التي مضت عليها سهلة. وفي هذا الاتجاه، ينبغي التأكيد على أن الخروج البريطاني من الاتحاد هو نتاج تراكم مرير للتداعيات التي مر بها عبر مسيرته، التي امتدت قرابة نصف قرن من الزمن. فهذه الوحدة لم يعززها نص فكري متكامل، يملك قابلية التطبيق على أرض الواقع. لقد تبلور المشروع تدريجيا، وانتقل من صيغة سوق أوروبية مشتركة، بدأ التهيؤ لها إثر نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، وباتت أمرا واقعا في بداية الستينيات، حيث كانت فرنسا وألمانيا ركنيها الأساسيين.
ولا شك أن النظر إلى الخريطة السياسية للقارة الأوروبية يجلي بعض الصعوبات التي واجهتها لحظة التأسيس للاتحاد. فالدول الأوروبية، تمثل كل منها في الغالب أمة قائمة بذاتها، لها لغتها وتاريخها وثقافتها الخاصة، ويعاني بعضها مشاكل اثنية خاصة في الداخل، حيث تطالب أقليات قومية بالاستقلال، كما هو الحال في أسبانيا، مع الباسك، وبريطانيا مع اسكتلندا وأيرلندا.
وقد عاشت القارة الأوروبية، حروبا ضارية بين دولها، امتدت عشرات السنين، وكانت محرضا لبروز نظريات عن الدورة التاريخية. وفي القرن الماضي، شهدت القارة حربين عالميتين مدمرتين، حصدت الأخيرة منهما أكثر من سبعين مليون قتيل، وعشرات أمثالهم من الجرحى.
يضاف إلى ذلك، أن الدول الأوروبية التي تشكل الاتحاد تتفاوت كثيرا في قدراتها الاقتصادية، والعسكرية، كما تتفاوت بشكل كبير في أحجامها وتعداد سكانها، وفي ثرواتها وإمكانياتها العلمية والصناعية. وكان كل اختلاف يضيف معضلات جديدة إلى مسيرة الاتحاد.
علاوة على ذلك، فإن البنية الهيكلية لهذه الدول وعقائدها السياسية، وبشكل أكثر تحديدا دول أوروبا الشرقية، ظلت مختلفة جذريا إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، ولم تكن أوضاعهم الاقتصادية بأحسن حال. وجين جرى إدماجهم بالاتحاد الأوروبي لم يضع صانعو القرار، في بروكسل، حسابات الأرباح والخسائر، فقد كانوا مدفوعين بطبيعة اللحظة وتجاذباتها، وبمهرجان الفرح وموسم نهاية التاريخ، الذي ساد عموم القارة الأوروبية، احتفاء بسقوط الإمبراطورية الشيوعية.
لقد فرضت الأحداث المتلاحقة، وانضمام أعضاء جدد إلى الاتحاد، الذي تأسس عام 1973م، بتسعة أعضاء، لتصل عبر محطات عدة إلى خمسة وعشرين عضوا عام 2004، على مركز الاتحاد، في بروكسل، أن يعيد صياغة تركيبته عند انضمام عضو جديد، اخذا بعين الاعتبار إمكانيات العضو الوافد، والمساهمة في حل أزماته الاقتصادية، ومعالجة الإشكاليات الناجمة عن تحول البلدان الاشتراكية إلى الطريق الديمقراطي، ودمجها بمسيرة الاتحاد.
ليس ذلك فحسب، بل إن على قيادة الاتحاد أن تعيد النظر في كل مرة يلتحق بها عضو جديد في آلية صنع قراراتها، ونسبة تمثيل كل عضو داخل الاتحاد.
وحين نعود إلى الفريق المؤسس، نرى أن الدور الأساس كان ولا يزال لفرنسا وألمانيا، وهما أمتان عظيمتان، عاشتا حروبا ضروسا في مواجهة بعضهما البعض، انتهت الحرب الأخيرة باحتلال ألمانيا النازية لفرنسا. ويمكن أن نتصور حجم الصعوبات التي واجهها الاتحاد، حين نطل على مستوى اعتداد كل منهما بتاريخه وثقافته وأمجاده.
فالفرنسيون هم من أكثر شعوب أوروبا عراقة، واعتدادا بلغتهم وثقافاتهم. وقد وضعوا كثيرا من المكابح للحيلولة دون اختراق أفلام هوليود لثقافتهم، وحددوا لها ساعات معدودة، في إعلامهم المرئي. أما الألمان، فيفاخرون بأنهم من جنس أري، متفوق على كل الشعوب. وينطلقون من داروينية سياسية، تجاه جميع شعوب الأرض.
وليس من شك في أن التحاق بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، عام 1974م، أضاف إشكالات جديدة لبنيته. لقد نظر الأوروبيون باستمرار إلى بريطانيا كامتداد للسياسة الأمريكية، وأنها تابعة اقتصاديا لليانكي القابع خلف المحيط. وعلى هذا الأساس، عارض الرئيس الفرنسي شارل ديجول، ذو النزعة القومية الواضحة، التحاق بريطانيا بالسوق الأوروبية المشتركة. ولم يتمكن البريطانيون من الدخول إلى السوق إلا بعد مغادرة ديجول موقعه الرئاسي في قصر الأليزيه.
لقد مثلت علاقة بريطانيا التاريخية بالولايات المتحدة الأمريكية إشكالية دائمة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فهناك ما يشبه الاندماج التام في الثقافة البريطانية والأمريكية. وصناع السياسة الأمريكية هم في الغالب من البروتستانت الذين غادروا انجلترا إثر فشل الثورة الانجليزية، التي قادها المتطهرون، بزعامة أوليفر كروميل. ويسجل المهتمون بالتاريخ الأمريكي أن جميع رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، باستثناء الكاثوليكي جون فرانكلين كنيدي، هم من المسيحيين البروتستانت. وينحدر معظمهم من الأسلاف الذين هربوا من الاضطهاد الكاثوليكي، بعد فشل ثورة المتطهرين. وقد ظل هؤلاء وأحفادهم أمناء لإرثهم البريطاني، حتى يومنا هذا.
في هذا السياق، يأتي انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي تماهيا مع بنية نفسية خاصة، وتجانسا مع انتماء للثقافة الأنجلو سكسونية.
طبيعي أن الاتحاد لن يعود كما كان، بعد الزلزال البريطاني، لكن مسألة وجوده من عدمه، تبقى قضية أخرى. ففرنسا وألمانيا، الدولتان الرئيسيتان والمؤسستان للاتحاد تصران على التمسك به. وبالنسبة للفرنسيين، ربما يرون في الخطوة البريطانية ما يعزز النهج الاستقلالي للاتحاد، بعيدا عن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.
المؤكد أن الأيام القادمة ستكون حبلى بأحداث كثيرة على مستوى الاتحاد الأوروبي، وتداعيات ذلك على العالم بأسره، من الصعب التنبؤ بها الآن، وليس علينا سوى الانتظار.